المحتوى الرئيسى

أرض البدايات : «المصري اليوم» تجمع حكايات المعمرين عن مذابح العصابات الأولى (الحلقة الثالثة) | المصري اليوم

11/23 22:00

سبعة عقود مضت عليهم ومازالت رائحة الكروم فى حقول الآباء تداعب أحلامهم، تعتلى وجوههم ابتسامة صبى وهم يتذكرون اللهو عند بئر المياه فى طفولة انتهت بمذبحة، لا تفارقهم ذكريات مدارسهم وأسماء مدرسيهم، حفر كل منهم جداول قريته فى قلبه، قصة يرويها لأبنائه وأحفاده على أمل العودة، يتذكرون رحلة التهجير، كيف فروا، كيف نجوا، وكيف ذبحت العصابات الصهيونية ذويهم. اليوم صدأت مفاتيح العودة وتفتت معظمها، وعندما ذهب البعض لزيارة ما ظنه ديارًا بعد عقود من تركها وجدها باتت قفارا، ولكنهم مازالوا يحلمون بالعودة.. بالتحرير.. بنسيم بحر لم يروا شطآنه منذ التهجير، يتذكرون مَن خان ومَن باع، كلٌ باسمه، لا ينسون الشهداء ومن تركوهم فى الطريق يوم نكبة الجيوش العربية وإجبارهم على الهجرة وترك كل شىء خلفهم، فخرجوا ومازالت وجوههم ملتفتة للوراء.

«المصري اليوم» تجمع حكايات المعمرين عن مذابح العصابات الأولى:

«الختياريون».. شهود على تسليم فلسطين للصهاينة

الإسرائيليون وأعوانهم كانوا يستخدمون المذابح «دعاية رعب» لإجبار أهالى القرى الفلسطينية على الرحيل

خلف واجهة حانوته العتيق بوسط رام الله، اتكأ عجوزٌ ثمانينى على مقعد صغير، لتطل من خلفه صورٌ لزعماء عرب ملصقةٌ على باب المبرّد «الثلاجة»، ولكن أبرزها وأكبرها حجما كانت للرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر، كان العم «أبوجمال» طفلا فى الثانية عشرة من عمره عندما اقتحمت المجموعات الصهيونية المسلحة قريته، أكثر من سبعة عقود مضت ومازال يتذكر تفاصيل المجازر، ومذلة التهجير، يروى قصصا وحكايات من اللد، وكيف دخلت العصابات إلى قضاء اللد؟ فيقول «كانت بلدى اللد فى وسط فلسطين، الكل ييجى عليها من منطقة بيرزيت هنا فى رام الله، إلى لواء اللد على الحدود الإسرائيلية، بيننا وبين تل أبيب مطار اللد، وهو مطار عسكرى للإنجليز، وعندما انتهت الحرب العالمية جعلوه مطارا مدنيا».

عندما بدأت عصابات اليهود فى مهاجمة القرى حول اللد بدا أهلها يستعدون للحرب، فهذا يبيع سوار زوجته، وذاك يبيع قطعة من أرضه لأجل شراء سلاح، ويقول «أبوجمال»: «كان الرجل منهم يذهب إلى عمان يشترى فردا أو بارودة أو عشر طلقات من "الفشك" ، كنت أوعى على اليهود يهاجمون أى قرية من حول اللد فيأتى ابن رئيس البلدية وكان من عائلة الكيالى ويدور على المقهاوى ينادى: يا شباب.. اليهود هجموا على المنطقة الفلانية، اللى معاه فرد واللى معاه بارودة يروحوا، مرات ينسحب اليهود، ومرات يتبادلوا النار».

واستمر هذا الوضع على مدار شهور، يهاجم الصهاينة القرى ويأتى أحد الشباب ليبلغ بأن العصابات هجمت على باب الواد فيركب الشباب ويذهبون للقياهم.وعن أحداث النكبة يقول «أبوجمال»: «فى حرب 48 كان أول يوم فى معارك اللد،صارت مناوشات بين أهل اللد ناحية المطار، لم يقدروا اليهود على البلد أول وثاني يوم ، وفي اليوم الثالث استولى اليهود على المطار، عند دير طريف وبيت نبالة، أصبح بامكانهم أن يلفوا اللفة من خلف اللد ليعملوا "كماشة"، لفوا اللفة على عدة قرى، صرنا للغرب أهل اللد وهم للشرق"

وفي السابعة من صباح احد الايام حلقت فوق اللد طائرة ذات محرك واحد والقت منشورات موجهة لأهل اللد ، كتب فيها : (جيش الدفاع الإسرائيلى يأمركم بما هو آت، كل من هو فوق سن الـ15 يذهب إلى الكنيسة أو الجامع) ، وكان في اللد كنيسة مشهورة اسمها كنيسة الخضر بَنَتها القديسة هيلانا.

كان أبوجمال طفلاً يلعب مع الصبية حيث يجمعون قواعد الرصاصات الفارغة ويبيعونها كل ١٠ بقرش، وأثناء انحنائه لجمع الفشك «الرصاصات الفارغة» مرت دبابتان من أحد الجيوش العربية، وسأله أحدهم يا ولد «وين طريق الرملة؟» فأشار له أبو جمال «من هون».

ويروي ابو جمال قصة ذلك اليوم فيقول " «وأنا أحكى مع العربى المطل من الدبابة أتى باصين لليهود ووقفوا على مسافة 30 متر، أتى باص لليهود فاستقام وتوقف عن لم «الفشك»، رحنا على الجامع، كان بابه كبير أقل قليلا من أبواب الأقصى، باب عربى و خلفه شناكل، ذهبنا وخبطنا على باب الجامع قلنا افتح إجت النجدة، قلنا دبابتين عربيتين هون، وراحوا على الرملة، طلع الزلمة ومعه 5 آخرين ، رأوت د أواخر الدبابات وعادوا يكبرون فى المسجد ويقولون" جت النجدة جت النجدة"، طلعوا طلعة واحدة، وأمامهم اليهود المدنيين، كان معهم واحد معاه سلاح فرد، ضرب عالباص، وانخزق الزجاج واتشقق، نزل الصهاينة من الباصين وأبادوا كل من فى المسجد ، لم يتبق واحد من 70 رجلا».

كان المسجد بجوار منزل أبوجمال، وكان يعلم أن له بابين، بابا رئيسيا وبابا آخر خلفيا، ففر هاربا إلى الباب الخلفى حتى وصل منزلهم وفتحت له والدته وهو يرتعد «فيه قتلى بالخارج».

ويصف أبوجمال هذه اللحظة بصوت طفولي يملأه الرعب حين استحضر فزعه القديم الذي لاقى به امه فيقول : «سكّرنا الباب على حالى أنا وأمى، وحوالى الساعة 9 مساء ضرب الباب تبعنا خفت أنا وأمى، فتحت وجدت زلمة عمره 40 سنة، يصرخ: فيما قعدتكم هون، اليهود بيبطوا بطن الحبلى، اليهود بيغتصبوا النساء، ويذبحوا الولد على حجر أمه، طلعنا أنا وأمى وأهل القرية على سوق، لاقينا بيطلع 7 أو 8 آلاف واحد رجال ونساء"

لم يكن احد منهم يعرف أين وجهته التالية فاخذت والدته تسأل النساء المنتظرات معها : "يا أختى وين بدنا نروح؟، تجيبها النساء إنهن لا يعرفن وجهتهن .

ويضيف ابو جمال " كانت أمى دافنة 20 ليرة فى الرمل، عادت وأحضرت المال، وأتى واحد من الجيش الصهيونى، وقف فوق سور طوله متر، وقال (ياللا كلكم على عبد الله) يقصد الملك عبدالله ملك الأردن».

: «مشوا الناس كيف تمسكى خروف من قرونه وتمشيه، مشينا فى طرق فرعية، رمل من بين جبال، واحد مشى من طريق الكل مشى وراه، فضلنا نمشى نمشى، فيه ناس ماتت من العطش بالطريق " هكذا يصف أبوجمال منظر الناس بعد أن انصاعوا لأمر الصهاينة" ، ويغمض عينيه ويطلق آهة طويلة ثم يقول " كنت من الناس اللى ربنا كتبلى العمر، تركونى أهلى بعد ما أوشكت على الموت ما قدروش يحملونى، فيه ناس شربوا البول تبعهم، بلوه بشريطة وصاروا يحطوها على شفافهم، أنا يئست وبدى أموت، وأنا ماشى نتفة نتفة مدروخ، فى بطريقنا جبال وصخر كانت الدنيا شوب نار، وجدت صخرة ليها حفة رقيقة مسوية فية (ظلة) نصف متر نمت تحت الصخرة صاحبة الفية».

ويكمل «أبوجمال» قصة نجاته من الموت: «وأنا نايم هيك شفت ناس بيدخلوا وحاملين بإيديهم شئ يشبه خشب ويمصونه، لاقيت فى إيديهم عيدان يشدوها من بعض، كانت عيدان ذرة أخضر، يمصوا سيقانها وناس تمضغ الورق، أخدت شقفة ومصيتها، قدرت أكمل السير معهم، فى الطريق شفت ناس مرميين على الأرض ميتين، كان المشهد يشبه يوم القيامة، الناس تركت أولادها على الطريق لما ماتوا، ظلينا نمشى حتى قرية اسمها نعلين، رحنا لاقينا الناس ألوف يبحثوا عن شربة ميه، لاقيناهم واقفين على جورة مدورة مثل البير، كل واحد يخلع قفطانه وينزله الجورة ويعصره ويشربه القفطان، كانت المياه لونها أصفر وريحتها نتنة، للأسف كانت مياه تحميم الأغنام، مصينا منها وظللنا 6 شهور بعد ما عدنا من نعلين على رام الله، ننزل دود ضخم من أحشائنا».

يمسك فى يده عقد زواج أمه بأبيه عام 1925، وهو موثق بولاية فلسطين التابعة للدولة العثمانية، أوراق صفراء بمستندات لضرائب أرض ملك والده منذ العشرينيات من القرن الماضى، وبها حدود الأرض ومختومة بخاتم فلسطين، يحتفظ بها أبوعواد من أجل عودة الأرض يوما، فهو يؤمن بأنها ستعود أو سيأخذ أحفاده هذه الأوراق ويستعيدون بها أملاكهم.

يحكى مصطفى محمود أبوعواد (81 سنة) من قرية صبارين بقضاء حيفا عن بداية الحرب: «بدأت المناوشات بينا وبين اليهود فى ظل وجود الانتداب البريطانى، من أواخر 1947 قبل نكبة 48، كانت العصابات الصهيونية من الأرجون واشترييل والهجانات تتدرب على يد الجيش البريطانى، قبل ما تيجى العصابات كان هناك يهود فلسطينيين بينا وبينهم معاملات ومشاركات تجارية، ونزرع ونحرس سويا، كانوا يخبروننا ألا نخاف من يهود العصابات، وأنهم سيحموننا منهم، ولكننا اكتشفنا كذب كل هذا الكلام بعد ذلك، لما صارت مناوشات 48 أتى جيش الإنقاذ السورى لتدريب الفلسطينيين، بدأ الناس ينتبهوا إن فيه عصابات صهيونية».

ويضيف مصطفى: «وبدأنا نبيع الأرض حتى نشترى السلاح، كانت تأتى العصابات فى المدن بيافا وحيفا واللد، وتقتل العربى المقاوم، وعندما خرج الإنجليز من فلسطين أوائل 1948خرجوا بالقميص والشورت فقط، وتركوا لهم كل السلاح والدبابات والعتاد البريطانى، خرج من قريته يوم 18 مايو 1948 بسبب الدعاية التى كانت تسبق قدوم الصهاينة حيث تنتشر الأنباء بأن اليهود إذا دخلوا على القرى يُذبح الشباب وتُسبى النساء"

يتذكر مصطفى دعايا المذابح التي اتخذها اليهود دعايا للفزع فيقول "أتذكر مذبحة الطنطورة، وهى قرية يضرب موج البحر جدرانها، قتل الصهاينة منها 95 من الأهالى فى يوم واحد بالإضافة إلى مذابح دير ياسين والقرى التى حول يافا وحيفا، اليهود ما كان بدهم شعب، كان بدهم الأرض بدون سكان، خرجت قريتى على سمع أخبار المذابح، ولكن الصهاينة دخلوا قريتنا بعد أن خرجنا وقتلوا 17 من الشباب الذين رفضوا الرحيل».

وتمتلئ عينا مصطفى بالدموع فيبادر بمسحها عن لحيته البيضاء وهو يتذكر في أسى: «كنت أذهب على البئر اللى كنت أشرب منها والمدرسة اللى كنت أدرس بيها وازور دارنا حتى بناء الجدار العنصرى الفاصل، البيوت ظلت قائمة حتى حرب 67، كانوا عارفين إن أصحابها راجعين لكن بعد 67 هدموا كل البيوت، ذهبت بعد 67 ما وجدت بيتنا ولا بيت من بيوت قريتنا».

كان «أبوعواد» لديه أمل منذ عدة أعوام أن يشهد التحرير قبل وفاته، ولكنه اليوم يوقن أنه لن يحيا حتى هذه اللحظة.

أما أم وجيه (85 سنة) من مواليد الجماسين قضاء يافا فكانت زوجة وأما لطفل وهى فى السابعة عشر حين خرجت من قريتها فى أول النكبة، مازالت تحلب الأبقار بأرضها التى كانت تشارك زوجها زراعتها قبل أن يخبروهم أن عليهم أن يغادروا وإلا ستقتلهم العصابات.

أصبح كل ما يسعد أم وجيه اليوم أن تجلس أمام منزلها فى مخيم نور شمس بمدينة طولكرم وتبيع «زعتر وزيتون»، ونعناع برى، فتقول «أنا أبيع حتى أشم رائحة الأرض والزرع كما كنت فى شبابى فى أرض زوجى، كنا أصحاب أراضى وكنا عائلة غنية لا ينقطع خيرها، تركنا كل شىء وحملت طفلى وخرجت قبل أن يقتلونا كما فعلوا فى باقى القرى».

فى مخيم جلزون برام الله مازالت حريصة على أن ترتدى زيها الفلسطينى المطرز، وتستنكر على الصغيرات ارتداء العبايات، إنها الجدة فاطمة محمود (87 سنة)، خرجت من بيت نبالة بقضاء اللد وهى فى عمر الـ17 سنة، كان لديها طفلة عمرها عام ونصف، وعن ذلك اليوم تقول فاطمة «إجو اليهود علينا فى الـ48 وأصبح الشابب يحاربهم على الساحل، قبل أن يصلوا قريتنا، وفى اليوم الساعة 6 صباحا إجت طيارة قصفت جزءا من القرية، خفنا، وداروا الناس يقولوا بدنا نرحل، أهل الطيرة ودار طريف، أتوا علينا حافيين مهزومين من اليهود، طلعنا على إننا هنخرج ونرجع بعد شهر أو شهرين، طلعنا فى الجبال، حتى بلدة تدعى شقبة، خلفنا حماتى تحت الشجر لأنها لم تستطع تكمل المسير معنا، وتركنا زوجى معها وذهبت أنا وأخته، قعدنا تحت شجر تين شقبة، حتى أتينا إلى رام الله».

تبكى فاطمة وهى تتذكر حين أتت مجموعة من العصابات، وقتلت 7 شباب من قريتها وعندما تصدى لهم شباب القرية، أتت مجموعة أكبر من العصابات لتعزز الأولى وتخرجهم من القرية.

بالشهر الماضى دخلت فاطمة قريتها لأول مرة منذ التهجير، فبكت وجلست وهى تخبرهم «أنا تائهة، أين بلدى؟ أين دارنا والمدرسة أين شجرة الكروم وصبارة أبى. لم تجد بيتها ولا بيت أبيها ولم تعرف شيئا كانت صدمتها، فقط مدرسة بيت نبالا، مغلقة ومهدمة، ولكن البيوت اختفت والأشجار أحرقت».

كان إبراهيم محمود زين (86 سنة)، من بيت نبالا اللد يحتفظ بمفتاح منزله حتى كرمه الرئيس عرفات وطلب منه أن يودع المفتاح فى أحد مكاتب السلطة، عندما قامت النكبة كان عمره 18 عاما.

وعن النكبة يقول زين «قبل نكبة 48 كانت تأتى عصابات الصهاينة ونخرج نلاقيهم نضربهم ويضربونا، كان مالكا لأرض فى 7 قرى بيافا، كان أبى شيخا صاحب أملاك، وفى النكبة خرجنا وتركنا كل شىء، وظللنا 6 شهور نتنقل بين المدن الفلسطينية من اللد دير عمار والجمالة أسبوع سيرا على الأقدام فى الجبال حتى وصلنا أريحا ومن هناك كان مقرنا فى مخيم الجلزون برام الله».

مازال عنده أمل فى التحرير وأن يرى أرض أجداده ويعود إلى بلاده: «بس أشوفها بعينى وأشم ترابها شمة واحدة وأموت».

نرشح لك

أهم أخبار صحافة

Comments

عاجل