المحتوى الرئيسى

المصريون في التغريبة الثالثة.. تقرير حقوقي يرصد أسباب هجرة المصريين وأحوالهم في الغربة ويسأل: من يدفع الثمن؟

11/23 02:05

"مش عاجبك روح كندا ولا أمريكا"، "مش عاجبك روح قطر ولا تركيا".

صيحتان شهيرتان عرفتهما مصر في السنوات الأخيرة، في نهاية كل جدل سياسي صاخب لا ينتهي إلى شيء، لكن متى قرر شباب مصر فعلا في الهجرة رغما عنه؟.

سؤال تبدأ منه هذه الشهادات التي نشرتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، بعنوان "التغريبة الثالثة.. عن هجرة ورحيل المصريين غير الطوعية"، وهي تتناول أحوال بعض المصريين في تغريبتهم القسرية، والعوامل التي دفعتهم إلى الخروج، والمشاكل التي يتعرضون لها هناك، والموانع التي تحول دون عودتهم إلى بلادهم.

الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، وهي مؤسسة قانونية تضم محامين وباحثين، يعملون في الدفاع عن حرية التعبير في مصر و العالم العربي، وبدأت عملها في 2004، واعتمدت في تقرير التغريبة الثالثة على شهادات واستبيان من 31 مغتربا ومغتربة، جمعها باحثو الشبكة من 8 دول عربية وأوروبية وآسيوية ومن الولايات المتحدة، ومن خلفيات سياسية وأعمار ومهن مختلفة.

بعض المهاجرين ممن شملهم التقرير خرجوا في بداية عام 2012، ثم توالى الخروج والرحيل عن مصر، "ما يعني أنهم جميعاً حديثو عهد بالتغريبة"، وقسمت الدراسة الشهادات إلى 3 أنواع هي: "مضغوطون يشعرون بخطر مجهول بسبب طبيعة عملهم، والذين تلقوا تهديدات مباشرة وصريحة من السلطة، والذين ينتظرهم حكم بالسجن حال العودة".

يذكر التقرير أن المصريين في العصر الحديث مروا بتغريبتين سياستين من قبل، أولهما كانت من نصيب الإسلاميين، وبعض الشيوعيين في الستينيات، في نهاية حكم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، والثانية، كانت خاصة باليساريين والقوميين، في السبعينيات في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وهذه التغريبة الثالثة التي طالبت كل الأيديولوجيات، إسلامية وليبرالية ويسارية، بل ولكل الطوائف الدينية إسلامية ومسيحية، كما ورد في الملاحظة البحثية في مقدمة الشهادات.

وورد في الملاحظة نفسها أن تلك التغريبة بدأت عمليا بالتزامن مع الفُرقة التي دبت بين المصريين، بعد شهر واحد من رحيل مبارك، ووصلت إلى ذروتها في مارس/آذار 2011، مع الاختلاف الذي دب بين فريقين يرى الأول الاكتفاء -حالياً- بإجراء تعديلات دستورية على الدستور القائم وقت الثورة، وفريق آخر يرى ضرورة إعداد دستور جديد.

في شهادة الشاب ر.ر، وهو الاسم المختصر الذي أورده محرر الشهادات، أنه كان مطلوباً منه السفر بسبب آرائه السياسية والدينية: "قام عدد من جيراني بالاعتداء علي وعلى أسرتي، جاءت الشرطة وقبضت علي تحت مبرر حمايتي، سُجنت انفرادياً 92 يوماً، ممنوع من الخروج من الزنزانة، وخرجت على ذمة قضية بعد توصيات بعدم التواجد في أماكن عامة لوجود خطر على حياتي، وحال خروجي ضغطت علي أسرتي للسفر، كنت أقدر ما عانوه من أجلي، آخرها اقتحام منزلي من قِبل قوات الأمن في بداية 2012، وسرقة بعض متعلقاتي والتحفظ على جهاز الكمبيوتر وأوراق خاصة بي وترويع أهلي، تكاتف الكثيرون معي لإيجاد دولة تقبلني، وبالفعل سافرت في مطلع عام 2013 مرغماً".

ومع استمرار الأوضاع السياسية غير المستقرة، زادت رغبة الكثيرين في الهجرة، ما يهدد بنزيف للعقول والشباب والخبرات، كما يبدو في تدوينة الناشط وائل غنيم على فيسبوك في مايو/أيار 2016.

ورغم ذلك، تقول التقارير الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فإن عدد المصريين الذين اكتسبوا صفة مهاجر رسمياً وصل في 2015 إلى 409 مهاجرين "أصلى ومرافق"، وهو الرقم الذي انخفض عن عام 2014 والذي سجل حصول 505 مواطنين على صفة مهاجر وهو ما يسجل نسبة انخفاض 19%.

وهو ما يفسره موظف بمصلحة الجوازات والهجرة والجنسية، التابعة لوزارة الداخلية، في حديث مع "هافينغتون بوست عربي"، بأن من يحصل رسمياً على لقب مهاجر "هو من يقوم بعدد من الإجراءات الحكومية وهو ما لا يشكل ظاهرة كبيرة هذه الأيام". لكن أغلب المهاجرين صاروا يمرقون من بوابات الرحيل عن الوطن تحت مسميات أخرى، حتى تطويهم بلاد الله في المنفى، وعندئذ يحملون اللقب المؤلم: مهاجر.

ليلة إعلان بيان 3 يوليو/ تموز 2016 الذي عزل بموجبه الرئيس المنتخب محمد مرسي، قطع الإرسال التلفزيوني الذي تتحكم فيه الدولة، على كل القنوات الدينية، بمدينة الإنتاج الإعلامي، وكان هذا مؤشراً على أنه انتهى زمن سماع الصوت المختلف، هذا الرفض لم يكن من نصيب القنوات المخالفة فقط، بل والصحفيين المختلفين مع النظام، كما ورد في تقرير سابق للشبكة، بشأن حرية التعبير في المئة يوم الأولى من حكم السيسي.

في شهادة الصحفي الشاب م.د، وهو الاسم المختصر الذي ورد بالشهادات، أنه عاطل من سنة ونصف تقريباً، "عملت كل حاجة ممكنة عشان استمر في البلد، عملت مشروعاً، سخّرت نفسي له، صرفت كل دخلي عليه وكان عندي إصرار أن يتمول ذاتياً، وعوامل كتير أدت لفشله.

من الأسباب إنه لم يعد هُنَاك صحافة في مصر، ليس هناك معلومات. 5 سنين مروا على عملي في الصحافة وأحاول بكل قوتي أن أحافظ على احترامي لذاتي وللمهنة، بالإضافة لأسباب أخرى، قررت بكل ألم، أن أتخلى عن حلمي وابتعد عن الصحافة واتجه للعمل في مجال آخر مختلف نسبياً، وحاليا أنا سأخرج من البلاد لكي أحافظ على احترامي لنفسي، وما تبقى من قدرتي على الحياة كإنسان سوي".

هذا التضييق لم يصب العاملين في الإعلام فقط، وإنما أصاب كل رأي مخالف للنظام، فأصبح ممنوعاً عليه التعبير عنه في وسائل الإعلام، كما ورد في شهادة (ر.ي): "مُنعت قطعياً منذ ربيع 2014 من التعبير عن رأيي في كافة الوسائل المقروءة والمرئية، وتم التضييق الشديد علي في مصدر رزقي حتى أصبحت بلا مورد يكفيني مؤونة السؤال، خرجت إلى أوروبا في عجلة وسافرت على تأشيرة سياحية لمدة 3 أشهر فقط ما سبب لي مشكلة فيما بعد".

من بين مآسي العمل الإعلامي، أن الصحفي يضطر في أحيان كثيرة إلى التواجد في أحداث يكون فيها أمام اختبار حقيقي لإنسانيته، فلا يستطيع الانسحاب منها، وعليه أن يواجه ويتابع ويقترب من الأحداث، وإلا فمن سينقل وقائع ما حدث.

ومنذ ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 ثم الأحداث التي تبعتها من أعمال عنف كان الصحفي شاهداً عياناً على ما جرى فيها، ويبقى أن ما حدث في فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، حدثاً مختلفاً، حتى وإن اختلف الناس حول طبيعة الاعتصام، مسلحاً كان أو سلمياً، فعدد القتلى في المكان كان كثيراً، والتعامل مع الجثث كان وحشياً، وكان هذا الفض اختباراً حقيقياً لإنسانية الجميع.

في شهادة الشاب (م.م)، إعلامي تلفزيوني، عن الأيام السابقة على قراره بالسفر للخارج، قال إن عمله الصحفي جعله يشاهد بعينيه دماء ضحايا رابعة، "أحصيت بنفسي مئات الجثث بمسجد الإيمان، شاهدت وصورت أنصاف جثث محترقة تماماً، نصف عظام جمجمة، أجساد بها أجزاء محترقة، ظلت هذه المشاهد تزاحمني، مشهد رجل يحمل صورة لأخيه يحاول أن يجد أي شبه له بين أكداس الجثث المجهولة، ولا أعتقد أن أحداً عرفها إلى الآن".

ويختار البعض الخيار الأصعب، يمضي الإعلامي الذي استمر في عمله فيقول"في يوم 16 من أغسطس/آب 2013 خرجت مع زوجتي في مظاهرة، احتجاجاً على مجزرة رابعة، ما إن تجمّع الناس حتى أطلقت قوات الجيش والشرطة الرصاص الحي الذي فرّق الجميع، حاولت الاختباء وزوجتي في مكان آمن أمام عمارة، ألقتني زوجتي على الأرض وهي تصرخ بهيستريا شديدة، حيث وجدت عسكرياً يصوب رشاشه نحونا.

حاولت السير لأجد مخرجاً من الشارع، احتمينا بأحد الأبراج الإدارية، وجدت مصفحة جيش تقترب منا وتطلق كميات كبيرة من الرصاص في الهواء، في شارع يكاد لا يوجد به غيري أنا وزوجتي، أشهرنا بطاقات نقابة الصحفيين، وصرخنا حتى بُحّ صوتنا: صحفيين! أشار لنا قائد المركبة بيده أن نمر، وما إن مررنا حتى أطلق رصاصاً كثيفاً في الهواء بغرض إرهابنا، خفنا كما لم نخف من قبل". وبعد هذا الحادث قرر السفر "لا أريد أن أعتقل، لا أريد أن أموت بهذا الشكل، في عربة ترحيلات".

إن كان السفر أو الموت هما الخياران المتاحان فقط، فبالتأكيد سيكون السفر هو القرار الأقرب للمنطق، يقول (ن.ف) لتقرير "التغريبة" إن رسائل التهديد بدأت تصل إليه من بعيد، رسائل لا يمكن الجزم بجديتها من عدمه.

يضيف: "وصلتني أخبار من عدة مصادر بأن هناك خطراً على حياتي، وأنني معرض للتصفية بسبب ما أكتبه، وبسبب نشاطي السياسي الذي يهدف إلى تجميع ثوار يناير، لم أصدق في البداية هذه التهديدات. ولكن بدأت مضايقات كثيرة جداً في حياتي الطبيعية، احتجاز عاملين لدي وضربهم في قسم الشرطة، قضايا ومخالفات مالية مفاجئة، بالإضافة للحملات الإعلامية ضدي وضد أسرتي.

اضطررت شهوراً عديدة إلى الإقامة خارج منزلي، فوجئت بأنني مطلوب ضبطي وإحضاري، وهو إجراء في غاية الغرابة، خاصة أنه لم يتم إخطاري بأي شيء رسمياً، ومع بدء التصفيات والاغتيالات السياسية بشكل فج (حادثة شقة مدينة 6أكتوبر في أول يوليو/تموز 2015)، حينها استشعرت أن الخطر حقيقي، وبدأت التفكير العملي في الخروج، ورحلت بعدها بقليل".

وزدات وقائع القتل خارج إطار القانون بعد 30 يونيو/حزيران 2013 وفقاً لعدد كثير من المنظمات الحقوقية، ومن بينها تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الذي حمل عنوان "أسابيع القتل".

يحكي قنديل عن بداية التغريبة، عندما كان ضيفا على قناة الجزيرة في قطر، صيف 2013. "وقعت جريمة رابعة وكتبت ”تسلم الأيادي” فنشرت “الشروق” في رأس المساحة المخصصة لعامودي اليومي اعتذارا عن عدم النشر بناء على رأي المستشار القانوني للجريدة.

يقول "كان هذا الاعتذار بالنسبة لي أسوأ وأخطر من المصادرة، إذ لم يكتف بمنع المقال وإنما اعتبر مضمونه خروجا عن القانون، وكاتبه خارجا على القانون أيضا. مرة اخرى جاء صوت ناصحي من القاهرة: أنت لا تتخيل حجم الضغوط وكم الاتصالات التي تطالب بإسكاتك كلما ظهرت على الجزيرة، ولأول مرة يبدي خوفه عليً من الرجوع ويطالبني بالبقاء بالخارج".

وحكى بلال فضل عن السيدة حياة مخلص جاد، التي سافر ابنها الشاب إلى كندا. "سألته: يا أحمد حترجع امتى مش كفاية كده؟، رد: إنسي ياماما أنا مش راجع البلد دي تاني هو أنا مجنون أنا عاوز يبقى عندي عيال يلاقوا عيشة نظيفة ويتعلموا صح ويتربوا صح، أنا لو رجعت مصر لو ما اتقتلتش هاتسجن، ولو ما اتسجنتش حاعيش صايع مالوش مستقبل".

ويختتم بلال شهادته قائلا: سيظل الحديث عن الأمل خداعا للنفس يفترض ألا ترضاه لأمك ولا لأختك ولا لشعبك، لكن ذلك لا يعني ألا نعمل من أجل إيجاد تلك القناعة كل بما يملكه أو يقدر عليه، لأن ذلك هو وحده طريقنا نحو بداية الخلاص. يدّينا ويدّيك طولة البال والأمل.

وأخيراً.. شبعت يا رب غربة

من قال إن في الغربة تكون الحياة أفضل؟

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل