المحتوى الرئيسى

"عندما تبوح النساء" في صعيد مصر.. حكايات ومشاهد

11/22 09:49

يمثل صعيد مصر أو (محافظات الوجه القبلي) منجما حقيقيا للباحثين والدارسين في كل المجالات تقريبا، في الأدب والتاريخ والآثار، في الأنثروبولجيا والفلكلور والدراسات الشعبية.. إلخ، ويبدو مجتمع الصعيد بعاداته وتقاليده وطقوسه وأيضا رؤى العالم التي تشكلت على مدار قرون طويلة مادة في منتهى الثراء والغنى لإنجاز عديد من الكتب والدراسات المهمة.

في هذا الإطار، يأتي هذا الكتاب الصادر أخيرا عن دار بتانة للنشر والتوزيع في مصر، بعنوان "الصعيد في بوح نسائه" للباحثة والكاتبة المصرية الشابة سلمى أنور.

تستهل الكاتبة دراستها برفض الصورة النمطية التي كرستها الأعمال الدرامية لمجتمع الصعيد، رجالا ونساء، بدءا من أشكال الزي الصعيدي ولفات العمامات الرجالي و"الطرحة" النسائي، وصولا إلى نطق اللهجة التي تفتقد كثيرا إلى طبيعتها وصوابها كما ينطقها أهلها على الحقيقة، تقول المؤلفة "ربما لم يعد الصعيد شبيها بما نطالع في الدراما المصرية التي عادة ما تحيط الصعيد بأجواء أقرب إلى الأسطورية وتزج في السياق الدرامي بمفاهيم متداخلة غامضة عصية على الفهم، ناهيك عن تعشيقة اللغة والطقوس غير المألوفة التي تجعل المتابع مشغوفا بما يرى وكأنما يشاهد عالما مسحورا تماما كعالم حكايات الليالي الألف والليلة الواحدة!"

فصعيد مصر مجتمع مشحون بالتعقيد الطبقي والقبلي وتضافر مكوناته الدينية والثقافية وزاخر بالموروث المخفي تحت قشرة رقيقة من التحضر والتمدين، في حين أن في جوف هذه القشرة "قلبا صلبا جدا مزاجه عربي إسلامي قبطي فرعوني"، قلبٌ تزعم المؤلفة أن المؤسسات التعليمية والتنوريرية الحديثة المختلفة لم تستطع اختراقه بالفهم الكامل أو التغيير الحقيقي إلى الآن.

ولهذا فإنها أقرّت، وبعد فترة من معايشة الجنوبيين وزيارات عديدة ومطولة لمدن وقرى صعيدية، أن الجنوب المصري يتسم بالفعل بقدر من الغموض والتعقيد، ناهيك عن حالة ما أسمته "الممانعة الثقافية" للمفاهيم والألفاظ الوافدة من الشمال، والرغبة المتأصلة لدى أبناء الصعيد في الاحتفاظ بالسمت الجنوبي المميز لهم.

واحدة من تلك العلامات التي أطلقت عليها "علامات الممانعة الثقافية" تلك، هي الاحتفاظ باللهجة الجنوبية التي لم ينجح التلفزيون قاهري الهوى أن يعيد نحتها أو تشكيلها إلا بالقدر الذي سمح به الجنوبيون أنفسهم. فالجلابية الصعيدي، العيش الشمسي، الويكا، الزنادة (أداة خشبية تستخدمها المرأة في المطبخ الصعيدي لتنعيم ثمار البامية، ويُقال إنها موروث فرعوني) بعض الطقوس المتعلقة بالميلاد والزواج والموت، هذه كلّها مفردات جنوبية أصيلة تضاف إلى اللهجة الصعيدية لتشكل مكونات الحياة في الصعيد. وكل تلك المكونات في حقيقة الأمر من الطراز المملوء بالروح والحياة وإلا لما كانت فرضت حضورها عبر القرون بكل هذا الطغيان وكأنما ترفض هذه المكونات أن تنطمس أو تموت بتقادم الزمن.

وتدلل المؤلفة على وجهة نظرها، باحتفاظ الصعيد بكل مقوماته وسماته الثقافية والأنثروبولوجية والفلكلورية منذ عشرات المئات من السنين، باستشهادها بأحد أشهر الكتب التي نشرت عن الصعيد وعالم الصعيد، وهو كتاب "الناس في صعيد مصر: العادات والتقاليد" للباحثة الإنجليزية وينفريد بلاكمان، والذي كُتب في الثلث الأول من القرن العشرين، تقول إن القارئ لهذا الكتاب والقارئ لكتابها «الصعيد في بوح نسائه"، سيدرك بوضوح أن صعيد القرن الماضي هو ذاته صعيد هذا القرن ولكن بقليل من الرتوش!

كانت نقطة البدء هي جمع الحكايات والمتون الشفاهية التي تحتفظ بها ذاكرات نساء الصعيد، وهن الكنز الذي لا ينضب لعالم كامل بأساطيره وقصصه وحكاياته وجانه وإنسه، لعالم كامل من الرؤى والأحلام والثارات والاحتفالات، حكايات تعيد خلق العالم وتشيده وفق رؤية خيال إنساني خصب ومتجدد، تقول سلمى في خاتمة كتابها:

"انتهى ما جمعتُ من حكايات لهذا الكتاب، لكن شغفي بحكايات صعيد مصر لم ينته بعد، كما أني لم أصل لنقطة التشبّع أو ارتواء الفضول والرغبة في المعرفة. لكن ما يشغلني أكثر من فضولي هنا هو، وأكرر، خشيتي على فقد هذا الموروث الذي يُعد فهمه والإلمام به توثيقا لتراث قطاع مهم وأصيل من وجدان الوطن، ناهيك عن كونه مفتاحا لفهم الطبقات الأعمق من وعي أبناء الصعيد الذي يظل مجتمعا مغلقا على نفسه عازفا عن التواصل مع خارجه، وهذا الفهم قد يكون خطوة على طريق التنوير وإحداث تغيير اجتماعي وثقافي حقيقي وعميق في ذاك الإقليم القديم الذي تجري عليه التغيرات ببطء ملحوظ كأنما يسط خارج حسابات الزمن!".

مؤلفة الكتاب، سلمى أنور، من مواليد القاهرة عام 1981 وهي باحثة في العلوم الإنسانية، حصلت على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 2002 قبل أن تسافر إلى مالطة ومنها إلى أيرلندا، للحصول على الماجستير في مجال حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي، وكان موضوع رسالتها للحصول على الدرجة هو "مفهوم الجهاد في العلاقات الدولية الحديثة". وعقب عودتها إلى مصر، استهلت رحلة التدريس الجامعي في الوقت الذي استهوتها فيها دراسة الحوار الحضاري بين أوروبا ودول جنوب المتوسط، فبدأت في إعداد رسالة جديدة لنيل درجة الماجستير للمرة الثانية، لكن هذه المرة من جامعة القاهرة وكان موضوعها "الأجيال الجديدة من المسلمين في أوروبا بين الاستيعاب والأسلمة". ثم سافرت مرة أخرى إلى أوروبا، تحديدا إلى الدانمارك لعدة أعوام، ولكن هذه المرة لا بوصفها باحثة بقدر ما قدمت نفسها في دوائر العمل الاجتماعي والإنساني كناشطة.  

من مؤلفاتها: "الله.. الوطن.. أما نشوف"، ورواية "نابروجادا"، وديوان "سوف أعيد طروادة إلى أهلها.. ثم أحبك"، بالإضافة إلى كتابتها المقالات الدورية بانتظام في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية في مصر.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل