المحتوى الرئيسى

من صحفي لسائق قطار في ألمانيا.. معجزة بلاد ''الدوتش لاند'' وسيمنس

11/20 10:48

يا لها من رحلة، تلك التي خاضتها ألمانيا من الانقسام للتوحيد، ومن سيطرة المفهوم الاشتراكي لمفهوم اقتصاد السوق الحر- الاجتماعي، ومن ‏الهزيمة الساحقة بعد حربين عالميتين، لريادة أوربا واحتلال المركز ما بين الثالث والرابع عالميًا في أغلب مؤشرات التنمية والاقتصاد.‏

هذه الرحلة الطويلة الشاقة الملهمة تحتاج إلى أن نركز عليها كثيرا في مصر، وننظر لها بعين الفاحص الباحث والمتطلع الحالم، هذه الرحلة تماثل في ‏تحدياتها أضعاف ما يواجهنا من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية.‏

تحديهم الأصعب كان في قدرتهم على ترويض جينات العظمة في شخصية عرق الألمان بعد أحساس الهزيمة والشعور بالذنب لتسببهم في خراب ‏أوربا، هذا كان التحدي الحقيقي الذي كان أمامهم، كيف يفيقوا من الصدمة وينسوا التاريخ بحلوه ومره ويتعاملوا مع الواقع ليس للرضاء به، ولكن ‏للسعي لتغيره، ويبدو أن هذا التحدي هو ما يواجه المصريين الآن. ‏

صحيح هذه المحنة رحلت عن ألمانيا، ولكنها تركت أثرها على الشخصية الألمانية، لتصبح أكثر تواضعا وجدية وبخل، وأقل ميلا للمرح والبذخ، ‏فالدرس كان قاسيًا، ورد فعلهم كان فعلا مبهرا.‏

قبل أيام قليلة، كنت برفقة مجموعة من الزملاء الإعلاميين في جولة للاطلاع على بعض جوانب التجربة ألمانيا، وفقا لطبعة 2016، التي تحتل ‏فيها المرتبة الرابعة كأكبر اقتصاد في العالم، بناتج قومي إجمالي يبلغ 3355 مليار يورو، كان التركيز في هذه الزيارة على ما يتعلق ببنيتها الأساسية ‏في قطاع النقل وأنظمة النقل الجماعي تحديدا، والذي يمثل شريانا رئيسيا لأي تنمية اقتصادية أو اجتماعية في أي بلد؛ وذلك بتنظيم من شركة ‏سيمنس. ‏

نقطة البداية كانت في ميونخ، حيث مقر كبرى الشركات، حتى أن البعض يطلق عليها العاصمة الخفية لألمانيا؛ كانت أقامتنا على بعد أمتار قليلة ‏من محطة القطارات التابعة لسكة حديد ألمانيا "دوتشه بان ‏DB‏"، وبسبب وقوع ميونخ في وسط أوربا فالحركة في هذه المحطة لا تتوقف ليل ‏نهار من وإلى كل المدن الأوربية، نظام عمل المحطة ومداخلها ومخارجها ومناطق التسوق فيها، أبعد ما يكون عن فكرة محطة القطارات المعتادة.‏

وحسب ما أخبرني به مسؤولو شركة سيمنس، فهذه المحطة تعتبر متواضعة مقارنة بمثيلتها في برلين، التي شيدها المهندس المصري العبقري هاني ‏عازر، ومن حسن الحظ أن في أجندة جولتنا زيارة هذه المحطة.‏

وجهتنا الأولى كانت لمصنع قطارات سيمنس في مدينة "آلاخ" شمال غرب ألمانيا، الذي تأسس عام 1838ويحتوى على شبكة سكة حديدة ‏داخلية، متصلة بالشبكة الرئيسية. الأجواء بدت هادئة في المصنع، بل هادئة للغاية، الأمر أشبه بدخولنا لمكتبة وليس لمصنع قطارات.‏

‏بدأت الجولة بجلسة تمهيدية مع مسؤولي قطاع حلول النقل بسيمنس، ويقول دكتور جيرت كوبيتس، مدير مصنع القطارات في مدينة آلاخ، ‏‏"ينتج هذا المصنع نوعين رئيسين من القطارات الكهربائية، وديزل-كهربائية، وتختلف سرعة واستهلاك الطاقة لكل نوع".‏

حسب المعلومات التي حصلنا عليها، فمتوسط إنتاج هذا المصنع ما بين 200-250 قطار كل عام، أغلبهم من نوعية "‏Vectron‏" الشهيرة، والتي ‏تحتوى على موديلات مختلفة، حسب طبيعة بيئة التشغيل، وتبدأ سرعاتها من 160 كيلو متر في الساعة، وتصل إلى 300 كيلو متر في الساعة ‏مثل التي تعمل بأمريكا حاليا.‏

عنصر الابهار في هذا المصنع ليس في حجمه فقط ولا في آلية العمل الصارمة، ولكن أيضا في أن القوى البشرية التي تقوم بتشغيله وتنتج هذا الكم ‏الكبير من القطارات في حدود 800 عامل، ليسجلوا واحدة من أعلى معدلات الإنتاجية في ألمانيا، وربما في العالم.‏

يقول المهندس طارق علي، نائب رئيس شركة سيمنس مصر لحلول النقل :"العنصر البشري هنا يمثل عامل حاسم، من ناحية الابتكار ‏والتطوير، لكي نخرج بقطارات تناسب بيئات التشغيل المختلفة، وتلتزم بالاشتراطات البيئة، ومعدلات استهلاك الطاقة وجودة التشغيل بما ‏يضمن أفضل‎ ‎عائد على الاستثمار ودورة ‏‎ Life Cycle Costدون عطلة".‏

رغم أن سيمنس انتجت قبل عامين قطار ‏Vmax‏ وتصل سرعته إلى 357 كيلو متر في الساعة، إلا أنه لم يعمل أبدا على القضبان الألمانية، لان ‏احتياجات التشغيل غير متوفرة في "دويتشه لاند"، ولكن عمل في الصين لاحقا، وضرب طارق علي مثالا لتأثير بيئات التشغيل على مواصفات ‏كل قطار قائلا "ارتفاع دراجات الحرارة في مصر مقارنة بأروبا، وزيادة نسبة الأتربة، سيتطلب توفير وحدات تبريد أقوى، وفلاتر هواء أكثر ‏لقطارات فيكترون إذا عملت في مصر".‏

المحطة التالية، كانت في ورش العمل إن جاز القول عليها ورشة، فالواقع أننا دخلنا "هناجر" ضخمة مرتبة للغاية لا تكاد تسمع فيها صوت ‏لأقسام تصنيع المكونات، أو اللحام بالليزر، أو معالجة أسطح الجرارات، وهياكل العربات، أكثر ما لفت النظر هذا المزج بين أنظمة التصنيع ‏الآلي والبشري، فكل عامل حوله سيور لنقل المكونات آلياً، وأمامه شاشة كمبيوتر وجانبها لوحتين، أحدهما عليها أدواته، والأخرى عليها القطع ‏التي سيتم العمل على تجميعها أو مراجعتها.‏

‏بعد ذلك ذهبنا في جولة في الجزء المخصص للصيانة وإصلاح الأعطال إن وجدت، ثم انتقلنا للمنطقة المخصصة للتشغيل التجريبي، وكانت ‏المفاجأة أننا سنقوم بتجربة قطار والسير به على سكة الحديد الرسمية، وليس هذا فحسب، بل يمكن لمن يريد، أن يجرب قيادة القطار لبضعة ‏دقائق.‏

وهو ما حدث بالفعل لمدة نصف ساعة تقريبًا، حيث تبادلنا التواجد في كابينة سائق القطار التي تتسع لشخصين، وقمنا بتجربة السير به ‏لمسافات قصيرة، الكابينة تشبه تلك الموجود في الطائرات، أربع شاشات وأَزْرارٌ تشغيل بسيطة وضعت بعناية لترصد كل ما يدور في القطار ‏وما في خارجه، ومربوطة بالقطارات الأخرى، وبالمحطة التحكم الرئيسية، حتى أنه في حالة أصاب السائق أو مرضه، يمكن قيادة القطار ‏اتوماتيكيا من المحطة الرئيسية، كما تقول صابرينا سوسان، الرئيس التنفيذي لقطاع المواصلات.‏

أول قطار كهربائي في العالم

في عام 19879 طور الألماني فيرنر سيمنز قاطرة بمحرك يعمل بالتيار الكهربائي المستمر ويؤخذ من السكة الحديدية نفسها، وهذا كان أول قطار ‏كهربائي في العالم، ولنجاح الفكرة وغيرها من عشرات البراءات من الاختراعات، وصلنا لشركة سيمنس العملاقة، التي تحقق عائدات سنوية ‏تبلغ 75.6 مليار يورو. ‏

وتؤكد ماركو فويلنر المدير المالي، تحتل قطارتنا الآن المرتبة الأولى في أوربا وأمريكا، وفي أكثر من 50 سوقا مختلف، والعام الماضي احتفلنا ‏بالقطار رقم 22 ألف. وفيما يخص التعاون في السوق المصري، قالت:" هناك مفاوضات تتم حاليا، ونحن متحمسون جدا لها، ونملك ميزة نسبية، ‏لأننا سنقدم قيمة مضافة بنقل المعرفة وعمليات التجميع ثم التصنيع الجزئي بالتعاون مع أحد المصانع الحكومية في مصر".‏

وتلخص المدير التنفيذي لقطاع مواصلات سيمنس استراتيجية التطوير الحالية بالشركة، السيدة صابرينا قائلة:" الموثوقية، والمورنة، والمعقولية ‏في التكلفة، مع بقاء المستخدمين متصلين أثناء تحركاهم، تمثل الاهداف الرئيسية لمنظومة سيمنس في قطاع النقل الآن".‏

تمثل المواصلات العامة في ألمانيا عصب حركة النقل، سواء بالنسبة للأشخاص التي تنقل أكثر من 70 في المئة من حركتهم وأيضا البضائع بنسبة ‏‏94 في المئة، وجميع خدمات نقل الركاب مدعمة، ولكن الدعم أخذ في التناقص، بسب تقديم خدمات تجارية تحقق عائد لمنظومة النقل الحكومية. ‏

علاوة على أنه فتح الباب للقطاع الخاص لاستخدام البنية الأساسية للدولة مقابل تقديم الخدمة برخص محددة وبرسوم متفق عليها، وهو ما ‏يمكن تطبيقه في مصر، فهناك بنية أساسية تملكها الحكومة ويمكن أن تؤجرها برسوم للقطاع الخاص، فيسد عجز في السوق، ويحقق عائد لخزينة ‏الدلة.‏

وفي الجزء الأخير من الرحلة، كانت وجهتنا محطة قطارات برلين الرئيسية، المحطة الأكبر في أوربا والأصعب في العالم من حيث تحديات بنائها، ‏والتي شيدها المهندس المصري العبقري هاني عازر، ورغم أن الكثيرين تحدثوا عن هذه المعجزة، ولكن السماع غير الرؤية، وسماعها من صاحبها ‏في موقع الإنجاز له مذاق أخر.‏

شرح لنا دكتور هاني صعوبة بناء هذه المحطة وكيف أنها كانت تتعارض مع كوبري هام وحيوي ملاصق لها ويعصب هدمه، فاستلزم العمل ‏بتصميم هندسي فريد لا يعاكس مسار هذا الكوبري؛ أسفل المحطة كانت الأرض جوفية، ما استلزم تجميد التربة وحقنها باسمنت من نوعية ‏خاصة بواسطة غواصين؛ وأيضا أرض المحطة كانت مليئة بمتفجرات من بقايا الحرب العالمية الثانية ما جعل عمليات البناء تسير بحذر وحرص ‏شديدين، كل هذا التحديات في إطار زمني صعب، أربع سنوات فقط، لكي تلحق بكأس العالم الذي استضافته ألمانيا في 2006، وفي النهاية ‏أنجز العمل بنجاح، مع بتوفير 250 مليون يورو عن الميزانية المرصودة! ‏

ويكفي أن أحد المهندسين الألمان حكى لنا، كيف أن العمل مع الدكتور هاني كان يتصف بالصرامة والحزم بصورة تفوق ما اختبره من العمل مع ‏أي مدير ألماني أخر. ‏

خلال جولتنا في محطة قطارات برلين، التي تحتوى على 6 أرصفة متعددة الطوابق، وملحق بها محطة مترو داخلية وترام، وكذلك محطة اتوبيس، ‏وجراج ضخم، ومول به 70 محل. دكتور هاني أصر على أن يصحب الوفد الإعلامي المصري بتواضع شديد في رحلة بالقطار من محطة فرعية ‏حتى محطة برلين الرئيسية، وصعدنا معه لكابينة القطار بتصريح خاص.‏

وحسب ما قيل، فهذه هي المرة الاولى التي يصعد فيها وفد إعلامي لكابينة قيادة القطار، وهو من نوع سيمنس "فيكترون" التي تبلغ أقصى ‏سرعة لها 260، وطول ل430 متر، وعلق دكتور هاني قائلا :"المحطات تدعم مختلف أنواع قطارات سيمنس، سواء التي تعمل بخطوط كهرباء ‏بأعلى، أو تلك تحصل على طاقتها من القضبان".‏

أهم أخبار تكنولوجيا

Comments

عاجل