"السادات".. في عقر دارهم
عُرف عنه أنه صاحب قرارات شجاعة، ولكن أحدًا لم يتخيل أن يتخذ السادات قراره بزيارة أعداءه، ومواجهتهم في عقر دارهم، فكان أول زعيم عربي يزور الأراضي المحتلة، حاملًا خطابًا تاريخيًا ونداء للسلام مع العدو المغتصب، رغم رفض أغلبية الشعب المصري والعربي والإسلامي لتوجهه نحو السلام، إلا الأيام اختبرت بعد بصيرته وحسمه للقرار الشجاع الثاني بعد أمر العبور في 1973.
أدهش الرئيس المصري الراحل إسرائيل والعالم أجمع حينما سمعه يعلن استعداده أمام البرلمان المصري في 9 نوفمبر 1977 إلى الذهاب إلى "الكنيست ذاته"، فأصبح "السادات يشبه أول رجل صعد إلى سطح القمر"، كما وصفه الرئيس الأمريكي في حينها جيمي كارتر، الذي أصبح لاحقًا راعي المفاوضات بين السادات وبيجن في منتجع كامب ديفيد الأمريكي الشهير، وعلى الرغم من ترحيب العالم الغربي بهذا القرار، لم تكن ردود الفعل العربية إيجابية على الزيارة التي جرت يوم السبت 19 نوفمبر 1977، فقاطعت الدول العربية مصر، وعُلّقت عضويتها في الجامعة العربية، بل وانتقل مقرها الدائم من القاهرة إلى تونس، بل أن إسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري نفسه استقال من منصبه.
ورغم ترتيبات الزيارة والاتصالات التي تمت قبل اتمامها، اندهش الإسرائيليون حينما شاهدوا السادات يخرج من طائرة الرئاسة التي هبطت يوم إجازة اليهود في مطار "بن جوريون"، وقيل إنهم شكوا حتى آخر لحظة في أن السادات أرسل لهم طائرة عسكرية لتصفية القادة الذين كانوا في استقباله، ولكنه ذهب إلى إسرائيل "بقدمين ثابتتين"، يأمل في بناء "حياة جديدة" تقوم على السلام، داعيًا الشعبين العربي والإسرائيلي وضحايا الحروب والصراع، إلى أن "يملأوا الأرض والفضاء بتراتيل السلام"، وأن يملأوا الصدور والقلوب بآمال السلام، ويجعلوا "الأنشودة حقيقة تعيش وتثمر، والأمل دستور عمل ونضال".
حاول كسر "الحاجز النفسي" الذي اعتبر في خطابه التاريخي أمام الكنيست يشكّل سبعين في المائة من المشكلة، وذهب من أجل "سلام دائم وشامل وعادل"، وليس جزئي بين مصر وإسرائيل، دون إقامة سلام مع "دول المواجهة"، وحل القضية الفلسطينية، ولكن ظل الحاجز النفسي واستمرت معاناة الشعب الفلسطيني حتى الآن.
اتفق الجميع على أن "السادات" كان سياسيًا محنكًا، قبل أن يكون عسكريًا فذًا، فقد بادر بالسلام، كما فاجأ العالم بقرار الحرب لاستعادة أرضه، نال جائزة نوبل للسلام عام 1978 تقديرًا لدوره، سعي إلى توسيع دائرة السلام وسط رفض عربي، والتفت للوضع الداخلي في بلاده ليصلح اقتصادها الذي دمرته الحرب، لكن القدر لم يمهله ليرى ثمار انجازاته، فتلقى صدره رصاصات الغدر عام 1981، لتضع نهاية لحياة رجل الحرب الذي دفع حياته ثمنا للسلام، ولكن ذكراه لازالت ملهمة لغيره، ندم الكثيرون على عدم موافقته الرأي والتوجه نحو السلام في السبعينيات، وكرر غيره من الزعماء توجهه للسلام مع إسرائيل، ولكن حتى الآن لا يزال الجدل قائمًا حول تأثير تحركه "المنفرد" على مجمل الصراع العربي - الإسرائيلي وعلى مصير القضية الفلسطينية.
Comments