المحتوى الرئيسى

من الترويض إلى المواجهة

11/18 23:16

لا شك أن نجاح ترامب فى انتخابات رئاسة الولايات المتحدة عام 2016 كان بمثابة زلزال قلب كل الموازين، ليس فى الداخل الأمريكى فقط لكن أيضا فى كل العالم، لذلك بدأ الجميع فى محاولة إعادة تنظيم أفكارهم وأوراقهم وسياساتهم وتوجهاتهم وخططهم للمستقبل. فبالنسبة للعالم العربى تعتبر الدول الأصولية وعلى رأسها السعودية وقطر الأكثر تأثرا بهذا الزلزال، وتليها الدول التى اطمأنت لنجاح سياساتها فى عصر أوباما وهيلارى، كل على درجة أهميته وقربه أو بعده عن السياسة الأمريكية، وذلك لأنهم اعتقدوا (وهذا ما صدَّرته لهم المخابرات الأمريكية) أنهم أذكى كثيرا من قيادات العالم الغربى الذين يتعاملون معهم.

لقد ظن بعض الرؤساء والملوك العرب خاصة منطقة الخليج أنهم بأموالهم قد استمالوا أوباما وهيلارى واتفقوا معهما أنه لا مكان للأسد فى مستقبل سوريا، وأن جبهة النصرة معارضة معتدلة وعندما كشفت المخابرات الأمريكية من خلال المخابرات الروسية أن جبهة النصرة تتكون من جماعات متطرفة غيَّروا اسمها إلى جيش الشام واطمأنوا أن العالم قد صدقهم وخاصة الصديق الأمريكى، وكانوا يظنون أن هذا الصديق سوف يحسم الأمر قبل الانتخابات ليريحهم، لكن هذا الصديق كان من المستحيل أن يفعل ذلك لسببين؛ الأول لو فعل ولم يفز فى الانتخابات لن يستطع أن يدافع عن نفسه أمام الأمريكيين والعالم عما فعله فى نصرة وتمويل الجماعات المتطرفة، أما إذا فاز فسوف يحقق لهم وعوده ويكون قادرا على الدفاع عن نفسه، والسبب الآخر كانوا يريدون أموال الخليج بأكبر قدر منها فى تمويل حملة هيلارى الانتخابية. ولو كانوا حسموا الأمر قبل الانتخابات لما تحمس العرب بالقدر الكافى فى تمويل الانتخابات، خاصة أنهم يمرون بأزمة اقتصادية.

وهكذا قامت دول الخليج بتمويل المعركة الانتخابية لهيلارى بل اعتبروا أن وجود مواطنين عرب أو مسلمين بجوار هيلارى وعلى رأسهم (السيدة عابدين) اختراق لأوباما والسياسة الأمريكية، ولذلك جاء نجاح ترامب فى الانتخابات كارثة لهم لأنهم وضعوا كل أوراقهم وسياساتهم وثقلهم خلف هيلارى الديمقراطية. لكن الذى يدرس السياسة الأمريكية بعمق يكتشف غير ذلك تماما؛ فالموقف الأمريكى يتشكل من خلال إسرائيل وموقفها من العرب، لذلك تلاحظون أنهم وضعوا مصر على (حجرهم) عندما قام أنور السادات بعقد معاهدة سلام مع إسرائيل وتقاربوا مع السعودية وقطر بسبب تغير سياساتهم نحو إسرائيل، وإعلان ذلك على استحياء متزامنا مع المفاوضات حول سوريا أخيرا. وهكذا التقت إرادتهم معا لإسقاط الأسد الذى رفض أى تقارب مع إسرائيل بأى شكل من الأشكال وبأى نوع من الإغراءات.

وعملت أمريكا من خلال سياسة أوباما وتنفيذ هيلارى على إسقاط الأسد بتمويل السعودية للجماعات المتطرفة وعلى رأسها داعش والتى توغلت فى سوريا ولعلك تذكر ــ عزيزى القارئ ــ التصريحات النارية للجبير وزير خارجية السعودية وهو يقول بملء الفم «لا مكان للأسد» فى مستقبل سوريا. وكانت أمريكا سعيدة بذلك ومؤيدة بالمال السعودى والسلاح الأمريكى وهى بذلك تضمن توطين الجماعات فى الشرق الأوسط وإعطاءها شرعية بعيدا جدا عن الأرض الأمريكية، فى الوقت الذى تضمن فيه سلامة إسرائيل برعاية خليجية. وهذا هو الفارق بين سياسة الديمقراطيين فى أمريكا وعلى رأسهم أوباما وهيلارى وبين الجمهوريين برئاسة بوش وحاليا ترامب؛ إنه الفارق بين الاحتواء والمواجهة. إن السياسة الأمريكية فى أساسها لا تختلف ولقد لخص لى أحد النافذين فى السياسة الأمريكية هذا الأمر بالقول: «لا يوجد فارق فى السياسة الأمريكية فى مواجهة الوحش الذى يتهددنا، وفى هذه الحالة الجماعات الإسلامية المتطرفة، فالاثنان هدفهما القضاء عليه، الجمهوريون يواجهونه وجها لوجه فى صراع قوى، أما الديمقراطيون فيستأنسونه». والخطة عند الاثنين إبعاد الجماعات الإسلامية عن الأرض الأمريكية وسلام إسرائيل، كما ذكرنا. أما العرب فلم يدركوا ذلك حتى الآن إذ يعتبرون أن عدوهم الحزب الجمهورى وليس الديمقراطى، بينما الاثنان يعملان لأجل المصلحة الأمريكية بالأمس واليوم وغدا.

إن نجاح ترامب فى الانتخابات الأخيرة لم يكن إطلاقا لشخصه أو تاريخه السياسى أو نزاهته... إلخ؛ لكن لأن الأمريكيين قد حدثت لهم حالة من الرفض والاشمئزاز من السياسة المترددة لأوباما وفساد هيلارى الواضح وصفقاتها والضعف الذى حاق بالسياسة الخارجية الأمريكية ولمعان بوتين وتحكمه فى الأزمة السورية، على الرغم من دخوله متأخرا، بل إن دخوله بثقله لم يكن يحدث لولا الضعف الأمريكى الواضح فى معالجة قضايا الشرق الأوسط أثناء الربيع العربى.

وقد ظن الأمريكيون أن نجاح نظرية الفوضى الخلاقة ــ والتى أعلنتها كونداليزا رايس ــ فى قلب الشرق الأوسط رأسا على عقب، وتدخل هيلارى فى إنجاح التيار الإسلامى ليحكم البلاد فى تونس ومصر وتدمير سوريا والعراق وليبيا من خلال داعش، وكان يمكن لهيلارى أن تنجح لولا سقوط الحكم الإسلامى فى تونس ومصر وصمود بشار بسبب تعضيد بوتين وروسيا بقوة وانهيار أردوغان وتوريط السعودية فى اليمن وخراب ليبيا. كل هذا أعلن وبوضوح فشل سياسة الاحتواء التى تبناها الحزب الديمقراطى والتى كشفت مدى الضعف الأمريكى وغيابه عن الساحة الدولية، لذلك كان الشعب بانتظار أى شخص ــ مهما كان ــ يعلن سياسة المواجهة.

ولم يكن سوى المرشح الجمهورى الذى يستند على تاريخ طويل ممتد من المواجهة، بداية من رونالد ريجان الذى انهار الاتحاد السوفيتى فى عهده مرورا ببوش الذى غزا العراق ونهاية بترامب الذى جاء راكبا التاريخ الجمهورى ــ فى المواجهة وقد نصحه مستشاروه بألا يَّعدل من طريقة كلامه الشعبية ولا تعبيراته التجارية أو جمله القصيرة الساذجة التى يخاطب بها الساخطين المتضررين؛ ذلك ليظن ملوك الحزب الديمقراطى وقادته أن هذه الأمور هى التى ستسقطه فى حين أنها هى التى سوف تدفعه للأمام (بحسب رأى مستشاريه)؛ لأن الأمريكيين كرهوا بشدة الكلمات الناعمة الدبلوماسية التى تحمل فى داخلها خداعا والتواء وفسادا. إنهم يريدونه ساذجا تلقائيا وهم يدركون جيدا أنه لن يخرج عن إطار سياسات الحزب الجمهورى العريق الذى يؤكد أمريكية أمريكا وتفردها وعظمتها.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل