المحتوى الرئيسى

من جراب «الساحر»| «القبطان».. زوربا المصري ينتصر للحياة ويهزم القهر

11/18 00:03

أي جرأة امتكلها الفنان الراحل محمود عبد العزيز للدخول في تجارب سينمائية مختلفة وغير مضمونة النجاح جماهيريا، خصوصا إذا كانت مع مخرجين مغمورين.

الحقيقة أن هذه النقطة كانت من أهم ما يميز "الساحر" طوال مشواره السينمائي، حتى أنك تكتشف أن "جرابه" ملئ بالعديد من الألاعيب الفنية الجميلة، التي قدم فيها أفكارا غاية في التجديد والتميز، بخلاف الأعمال المعروفة له.

هنا نعيد اكتشاف أحد اعمال محمود عبد العزيز المظلومة، لنلقي الضوء على جانب المغامرة في مشوار الراحل. والحديث عن فيلم "القبطان".

بطولة: محمود عبد العزيز، أحمد توفيق، وفاء صادق، مصطفى شعبان.

العرض الأول: 29 سبتمبر 1997.

قصة الفيلم تحي عن منصور الدهشوري أو "القبطان" كما هو معروف لدى الجميع، الأحداث في عام 1948 ببورسعيد، عندما هُزمت الجيوش العربية  في فلسطين، فيما كانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي. "القبطان" رجل محبوب من الجميع، ليده سلطة معنوية كبيرة عليهم، هائم في الحياة، يساعد الجميع ويجميهم من غيرهم وحتى من أنفسهم، محب للحياة وللنساء، فيما يشبه شخصية "زوربا" في الأدب اليوناني، والتي قدمها أنطوني كوين في فيلم بنفس الاسم.

في المشهد الافتتاحي للفيلم الذي يظهر آثار النكبة الفلسطينية، ينزل اللاجئون الفلسطينيون الذين هجرهخم الاحتلال الصهيوني، في ميناء بورسعيد، تخاطف فتاة الشيخ العجوز: "شهل يا شيخ لا يلحقونا"، فيرد عليها "لو الصهاينة لحقونا في مصر وين راح نروح يعني، ما قدامنا غير الموت"، في إشارة بديعة لتحصن العرب عموما والفلسطيين خصوصا بمصر التي يرون فيها الملجأ الأخر لهم في وجه الصهاينة.

يتولى "الحكمدار" إسماعيل الذي يقوم بدوره أحمد توفيق مسؤولية بورسعيد، ومن أول الفيلم تظهر بوادر العداء بينه وبين "القبطان"، وطوال العمل تتنوع مشاهد الصراع بينهما، محمود عبد العزيز ممثلا لسلطة الشعب والمعرفة وأحمد توفيق ممثلا للسلطة الحاكمة الباطشة القاهرة.

يبدأ الفيلم قبل أي شيء بعبارة من كتاب "المواقف والمخاطبات" للقطب الصوفي محمد بن عبد الجابر النفري، وهي: "إنما أحدثك فترى.. فإذا رأيت فلا حديث"، يعبر هذا عن نزعة صوفية للعمل يريد أن يقدمها مخرجه المغمور وصاحب الإنتاج القليل للغاية سيد سعيد، ولا حقا سنفهم معنى عبارة النفري.

من خلال شخصية القبطان، وأحاديثه ومواقفه، سننعرف تفاصيل الصراع الذي يريد الفيلم توضحيه أو "التحدث به" وفقا لعبارة النفري، فـ"القبطان" رجل غير محدد الجنسية، لتدعيم فكرة أنه قيمة كبيرة وليس مجرد شخص، يعمل بجوار الميناء، لديه قدرة كبيرة على بث السعادة والبهجة ومد يد العون للجميع.

يحب "القبطان"، مع 3 رجال آخرين، "وجيدة" التي تلعب دورها وفاء صادق، لكنها فجأة تتزوج من الحكمدار، ونسمع في وصف حبه لها قطعة جميلة جدا من السناريو، تلمس القلب من فرط كلماتها البديعة: "بحبها.. بحب عنيها الواسعة وشعرها الأسود المجعد لون البحر.. بحب بشرتها اللي شاربة من لون الشمش ومعجونة بنور رباني.. بحب صوابعها الطويلة المسكوبة.. بحب ضوافرها اللي زي صدف البحر.. كانت بتحبني أيام الصبا. عاوزها تدخل بيتي وتسقيني من أبريقها وعمري ما أرتوي. أجمل ما فيها شيء مني وأجمل ما في شي مني.. هي وحدانية وأنا وحداني، رغم الأهل والصحاب والناس.. هي وحدانية لأن ملهاش زي".

يملك "القبطان" جهاز راديو يسمع عليه نشرة الأخبار الأجنبية، وينقلها مترجمة للأهالي الأمميين، يثير هذا حنق "الحكمدار"، ويحاول منعه من ذلك، لكن "القبطان" الذي يمثل في هذا قيمة المعرفة ينتصر على السلطة الرافضة لأن يعرف الشعب.

أحد المواقف التي تنهزم فيها السلطة في الفيلم مشهد بسيط للغاية، إذ يجلس "الحكمدار" على الشاطئ للصيد، وبالقرب منه يجلس "القبطتن"، الأول لا يتمكن من اصطياد أي سمكة فيما الآخر يعطيه البحر مما عنده، يتضايق "الحكمدار" ويجلس في مكان "القبطان" الذي يذهب إلى مكان "الحكمدار" الأول، لكن الوضع يبقى كما هو عليه: القبطاد ينجح و"الحكمدار" يفشل.

وعندما تاأتي لـ"الحكمدار" فرصة للقبض على القبطان والنيل منه، يفش أيضا، إذ يختفي "القبطان" فجأة، فلا وجود للبيت الصغير الذي كان يتجمع فيه مع الأهالي لينقل لهم الأخبار (المعرفة)، والجميع يردون بأنهم لا يعرفون أحدا اسمه القبطان، يقل "الحكمدار" البلدة رأسا على عقب لكنه يفشل في العثور على "القبطان"، فتقيله السلطة في العاصمة، وفيما هو مستقل القطار خائبا مهزوما يظهر القبطان فجأة، في مشهد مشابه لما ظهر عليه في أول الفيلم عندما رآه "الحكمدار" لأول مرة.

الفيلم به نزعة فانتازية واضحة، تتجسد بالطبع في فكرة اختفاء القبطان تماما، وكأنه لم يكن موجودا، ويذهب بعض النقاد إلى أن الفيلم يحمل أفكار "كفكاوية" نسبة إلى الكاتب التشكي فرانز كافكا، المعروف بالنزعة الفانتازية السوداوية، لكن البعض يرد بأن سيد سعيد لا يتفق مع أفكار كافكا السوداوية، لأنه ينتصر بـ"القبطان" للحياة وللمعرفة، في مواجهة السلطة الباطشة المانعة، التي أظهرها الفيلم في صورة "خائبة" وفاشلة وتائهة حول نفسها، لا تملك من الحيل إلا البطش والتهديد فقط، فيما الناس الذي يمثلهم القبطان يبدون على قدر كبير من فهم الحياة، والرغبة في المعرفة، ومساعدة الآخرين.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل