المحتوى الرئيسى

الواقع على خطى الخيال الأدبي

11/16 01:33

«فَكرتُ أنه مثلُ الفكْ» يقول جان ديشيل بطل رواية «الثعالب الشاحبة»، العاطل عن العمل الذي يعيش داخل سيارته في أحد شوارع باريس، بينما يتأمل سيارة النفايات التي تطحن جسد متشردٍ آخر كان نائماً في حاوية القمامة ولم ينتبه لوجوده عُمّال النظافة. القدم المُتدلية من سيارة النفايات لاحقت بطل الرواية في كوابيسه، بحيث كان مشهد الموت الصادم ذاك، أحد المفاصل الهامّة في الرواية وحياة بطلها الذي بدأ يُحسّ بثِقَل الظلم الاجتماعي، لينتقل من حالة الخدر واللامبالاة إلى الغضب والإحساس بضرورة الثورة والاحتجاج على ما يحصُل، بحيث ينضم في ما بعد إلى صفوف «حركة فوضوية» تتحدّى النظام الفرنسي، قوامها اللاجئون غير الشرعيين، وتتخذ «الثعلب الشاحب»، الإله الإفريقي رمزاً لها.

«الثعالب الشاحبة» التي صدرت ترجمتها مطلع العام الحالي عن دار ممدوح عدوان للنشر (2016) للروائي الفرنسي يانيك هاينيل (ترجمة ماري إلياس ومعن السهوي)، استبقت بدقة، تكاد تكون عبثية، حادثة موت بائع السمك المغربي محسن فكري الذي مات طحناً في شاحنة النفايات في مدينة الحسيمة شمال شرق المغرب الجمعة الماضية. القصة بدأت حينما صادرت السلطات المحلية المغربية بضاعته من الأسماك، وبادرت إلى رميها في سيارة النفايات، ما دفع بالشاب الثلاثيني الغاضب للقفز إلى داخل الشاحنة مطالباً باسترداد بضاعته، لكن الآلية الضخمة تحركت لتسحق داخلها بائع السمك، ولم يُكشَف حتى الآن إن كان ذلك قتلاً متعمّداً أم مصادفة.

بالعودة للعمل الروائي، قدّم الكاتب مبرراً منطقياً كي يشهد بطله حادثة الموت المأساوية، فجان ديشيل الذي يعيش في الشارع استيقظ على أصوات الصراخ التي اخترقت سكون الصباح، واقترب نحو الشاحنة ليفهم ما يحصل. «أميتٌ هو؟ لا أعلم إن كان في وسعنا استخدام هذه الكلمة. الأجدر استخدام مفردات مثل ممزّق أو مطحون أو محطّم» يقول جان ديشيل مستذكراً المشهد الذي يلاحقه، ثم يكمل: «أنا مسكونٌ بشيءٍ آخر غير هذا الرجل. أنا مسكونٌ بفكرة كيف يمكن أن يُرمَى الإنسان في القمامة أو في شاحنة النفايات وأن يتمازج مع البقايا»؟. تلك التساؤلات مهّدت للحظات التحوّل في حياة ومواقف الشخصية، وقد تتشابه مع أسئلة دارت في خلد مَن شاهدوا قصة موت فكري على شاشات التلفزيون. لكن وبالرغم من التقارب بين الحادثتين، فاقت الحادثة الواقعية المُتخيّلة قسوة، ففكري لم يمُت صدفة، بل قفز بمحض إرادته إلى داخل شاحنة النفايات كي ينقذ مصدر رزقه، كاشفاً بموته خفايا ما يحصل في مدينته، وحكايا الفساد في مرفأ الحسمية التي تتصدّى لمن لا يمتلكون سوى الاعتياش من البحر في الريف المغربي المُهمش.

موت المشرّد في «الثعالب الشاحبة» جاء متبوعاً بدموع عمّال النظافة وإحساسهم بالذنب، لتكون تلك الحادثة وغيرها تمهيداً لثورة فوضوية يتخفّى أبطالها وراء أقنعة توحّدهم، ويضرمون النار في الأوراق الثبوتية تعبيراً عن ثورتهم على مفهوم الهوية، والمبادئ التي يقوم عليها النظام الفرنسي. لكن وعلى العكس من ذلك يبقى مصير المذنبين في قضية مقتل فكري مجهولاً، بالرغم من محاولات النظام المغربي تهدئة موجة الغضب.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل