المحتوى الرئيسى

بعد غانا والغلابة

11/15 23:28

أختلف مع كل الذين ملأوا صفحات التواصل الاجتماعي بتعبيرات تستهجن احتشاد مجموعة من المصريين أمام شاشات عملاقة لمتابعة مباراة مصر وغانا في الوقت الذي خرج فيه يوم 11/11 بحراك لا يتناسب مع حجم الدعاية لهذا اليوم؛ ذلك لأن ما حدث من احتشاد أمام الشاشات لتشجيع المنتخب يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك رغم كل ما عاناه ويعانيه المصريون ما يمكن أن يجتمعوا من أجل تشجيعه ودعمه، فقط يجب إعادة تقييم خطاب كل القوى والتيارات السياسية حتى يتسنى لها استيعاب هذه الطاقات والمشاعر الحية صوب الهدف الوطني الأشمل والأعم، كما يستقطبهم دائماً الهدف الأدنى وهو تشجيع الكرة، ولعل من الذين احتشدوا لمتابعة مباراة المنتخب من قام يوماً بتنظيف الميدان قبل مغادرته بعد تنحّي مبارك.

وأهيب ببعض السياسيين والإعلاميين المعارضين للانقلاب أن يصطدموا مع مشاعر طبيعية تراكمية لدى المصريين، لا أنكر أن توقف قطاع كبير من المصريين عن الثورة بعد ارتداد الحال لواقع أسوأ بكثير من ذلك الذي خرجوا من أجل تغييره يوم 25 يناير/كانون الثاني أمر مؤلم، ولكن الأكثر إيلاماً أن يُعزى هذا الأمر لعيب في الشعب الذي قدم الشهداء من أجل الثورة، فإن تحدثت ولفظك الناس فاعلم أن شيئاً ما ينقص دعواتك ما دامت ليست وحياً من السماء.

كما أعتقد يقيناً أن مشاعر الإحباط التي تكونت لدى البعض بسبب ما اعتبروه فشلاً لثورة الغلابة ليس إلا طفولية وبراءة سياسية؛ ذلك لأن مكاسب هذا اليوم عديدة، منها إضافة صوت جديد للصراع الدائر على أرض مصر يختلف عن أولئك الذين ينادون -ما زالوا- بشرعية الرئيس محمد مرسي، وأولئك الذين يتمسكون بالسيسي خوفاً من مصير سوريا والعراق، ألا وهو صوت أولئك الذين اكتووا من كل هذا وذاك، ولم يكن لهم في الأمر ناقة ولا جمل، إلا أحلام البسطاء يصبحون ويمسون عليها في صبر عجيب وإيمان مذهل بفرج قريب.

إلا أن المكسب الأهم وفق تقديري لـ11/11 هو تحفيز السياسيين على إصدار بيان طال انتظاره نُسب إلى الهيئة التحضيرية للجمعية الوطنية المصرية.

أهمية هذا البيان يجب أن تنبع من قناعتين مهمتين هما:-

1- أن التيار الإسلامي وحده ورغم حراكه ونضاله الطويل المبهر فشل وحده في كسر الانقلاب العسكري وإزالة آثاره.

2- أن رموز التيار المدني، لا سيما الذين شاركوا في 30 يونيو/حزيران أدركوا حقيقة الفخ العسكري الذي نصب لهم عبر بيانات مترددة تؤكد ضمنياً رفضهم لما شاركوا في صنعه، فضلاً عن إدراكهم اليقيني ببؤس المصير الذي ساهموا في دفع البلاد إليه رغم تمسكهم برفض عودة الرئيس محمد مرسي إلى السلطة.

إذاً الحل البديهي هو تكوين مظلة وطنية جامعة تؤكد على المشترك وتحيل إلى الشعب كل ما هو مختلف حوله من أجل العودة إلى مربع ثورة يناير من جديد.

والمشترك هو رفض عودة الدولة القمعية بشكلها البوليسي المتجبر بقضائها المنافق وبرلمانها المبتذل ونخبتها الفاسدة وإعلامها الرخيص، وأيضاً رفض قراراتها الاقتصادية التي سحقت الفقير وكبَّلت المستقبل بديون تكاد ترهن مصر كلها للطرف الأجنبي، وتمهد الأرض لمخطط التقسيم، وليس أدل على ذلك من قيام السيسي بترسيخ فكرة الدولة الفاشلة -شبه الدولة- في الأذهان، وأخيراً خوفه من أن يجازى من الله على نيته!

والمختلف عليه هو شكل الحكم بعد إسقاط السيسي وتقليم أظافر الدولة العميقة، وكلها أمور جدلية يمكن أن تستهلك الشهور المتبقية من أعمار هذا الجيل في ظل بذور التحزب التي زرعت بحرفية في أعماق تربة هذا الوطن، فضلاً عن حاجز الدم الذي تعمد السيسي بناءه بين أبناء الشعب الواحد، وفق شهادة الدكتور البرادعي الأخيرة، وكلها أمور يمكن أن يستفتى عليها الشعب وفق جدول زمني محدد بعد انتصار الثورة.

الجمعية الوطنية المصرية هي نموذج مصغر للجمعية العمومية للشعب المصري كله ممثلاً في طليعته الثورية التي احتشدت في الميادين يوم 11 فبراير/شباط 2011 حتى أجبرت المؤسسة العسكرية على دفع واحد من أهم رموزها لتلاوة بيان تنحّي مبارك، يجب أن تكون مفتوحة أبوابها للجميع من كل التيارات والحركات الثورية، مؤسسة غير مؤدلجة تؤمن بأن العلمانية المتعصبة من أخطر الأيديولوجيات التي وافقت ودعمت مذابح فجّرت شلالات من الدماء الزكية سُفكت وما زالت تسفك في ربوع هذا الوطن بحجة إبعاد أصحاب الأيديولوجية الإسلامية عن صدارة المشهد السياسي رغم الاستحقاقات الانتخابية التي شاركوا فيها بنزاهة وفق أصول اللعبة الديمقراطية.

الجمعية الوطنية المصرية رئة يجب أن تحتوي جميع الاختلافات وتصهرها تعضيضاً للثوابت التي بدأت تترسخ من جديد بعد تجربة انقلاب السيسي العسكري بفكر متسامح لا تلاوم فيه ولا تلاسن ولا معايرة بمواقف قديمة نضجت في أوقات ملتبسة وتخوفات قام الإعلام بتغذيتها بأموال مشبوهة وخيوط صهيونية.

الجمعية الوطنية المصرية يجب أن تكون برلمان الشعب الانتقالي المقبل، يتحدد عمره مسبقاً وأجندة عمله، وأبرزها التأسيس لعقد اجتماعي جديد يتطلب دستوراً جديداً وشكلاً توافقياً للدولة وآلية للتوزيع العادل للثروات ومكافحة جحيم الأسعار وأجور عادلة، والعمل على استعادة ما نهب من مقدرات الوطن.

إن استمرار الشارع في الحراك رغم ضعفه كان الحافز الأكبر للسياسيين كي يتحركوا، وأن يتخطوا إرهاباً فكرياً وبلطجة سياسية تعمد زرعها داخل المشهد بعض المحسوبين على معسكر الثورة بهدف تعزيز فرص بقائهم في صدارة المشهد الرافض للانقلاب عن طريق المزايدة والتمسك بأحلام هم قبل غيرهم يدركون استحالة تحقيقها، بل منهم من سبق الجميع بتقديم مبادرات اعتقد واهماً أنها الحل، ثم انقلب عليها ليرسخ وجوده بالحنجورية المزايدة على كل عمل سياسي صادق مخلص يهدف إلى جمع شتات هذا الوطن بمداعبة أحلام البسطاء والمتاجرة بجراحهم وما ضحوا من أجله.

إن استمرار الحراك يحرج رموز التيار المدني، لا سيما من ساهموا في 30 يونيو ثم أعلنوا تخوفاتهم من المسار الذي وضعت عليه مصر، وقد انتبهوا أخيراً للهاوية التي تدفع البلاد باتجاهها دفعاً ولا نجاة منها إلا باتحاد كل الأصوات المخلصة التي جمعها الميدان في الأمس القريب.

إن الثورة المضادة حقيقة سياسية وتاريخية غير مستغربة، ولكن الغريب فعلاً هو المسافة البعيدة التي ما زالت تفصل بين حلفاء الميدان بعد كل الحقائق التي اتضحت، والوجوه التي انكشفت، والفخاخ التي نُصبت، والكوابيس التي تحققت.

ولعلي أختتم بنداء لكل الأسماء والرموز الكبيرة التي ساهمت في الإطاحة بمبارك عبر عمل دؤوب استمر طوال العقد الأخير من حكمه بعد اتضاح ملامح مخطط التوريث، وما زالوا بالداخل في مصر، أما آن الأوان أن تتحدوا من جديد، وتعيدوا أسطورة الجمعية الوطنية للتغيير التي كانت المسمار الأهم في نعش حكم مبارك؟! أما اشتقتم لروعة مصافحة بعضكم بعضاً في مجالس النضال وحرارة العناق داخل الميدان، من أولى منكم بالبدء في كسر حاجز الخوف الذي نجح السيسي في إعادة بنائه؟ مَن أحق منكم بإعادة إلهام هذا الشعب بالروح الثورية؟

إن أيادي المعارضة المصرية المعتدلة العاقلة بالخارج كانت ولا تزال ممدودة إليكم وهي تدرك يقيناً أن النضال من الداخل أعظم شأناً بكثير من النضال في الخارج، وإن كان الجميع قد ضحّى مع اختلاف صور التضحيات.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل