المحتوى الرئيسى

موصللوجيا "4"| حاتم الطائي قد يقدم البرغل!

11/13 22:50

إهداء إلى ص ن ج

مع صفات الانضباط والجدية والدقة التي تقال عن الموصلّي عندما يكون الحديث جادا، فأنه هناك أمر لا يمكن تجنبه عندما يكون الحديث ساخرا، وكثيرا ما يكون كذلك.

ببساطة، في العقل الجمعي العراقي، هناك ملف كبير عن النوادر والطرائف التي تتخذ مما يسميه الموصلي حرصا، ويعده غيرهم بخلا. وهذه الطرائف رائجة ومتجددة والموصليون قل اكتراثهم لها بالتدريج، وقد شاهدت شخصيا كيف تبدل المزاج الموصلي خلال عقود قليلة من الغضب عند سماع نكتة تمسهم ومحاولة الرد عليها بنكتة (غير موفقة غالبا ) إلى الضحك مجاملة إلى رواية هذه الروايات بأنفسهم.

لكن التفحص الدقيق لهذه النكات سيسلط الضوء على جوانب أخرى في نظرة العراقيين للموصلي، غير البخل، مراد النكتة.

بعض هذه النكات تضع أحيانا شخصية الموصليّ ( المفترض أنه بخيل) مقابل شخصية ( العُربي) ( المفترض أنه كريم) أي أن البخل هنا مقابل الكرم... لكن العُربي ممثل الكرم في النكتة يلفظ بضم العين ( عُربي) و ليس بفتحها كالمعتاد عندما نقول ( عَربي). والعُربي[1] بضم العين في العراق هو الأعرابي أو الريفي حصرا، ولا تقال ابدا لسكان المدن العرب.

بعبارة أخرى أن النكتة تضع الموصلي ابن المدينة، أمام ابن الريف والبادية.

ضمنيا هذا يعني بوضوح أن العقل الجمعي العراقي يعتبر الموصلي أكثر تمدنا من بقية العراقيين، وضمنيا النكتة هي على قيم التمدن عموما التي تجعل ابن المدينة أكثر حرصا مقابل كرم البدوي وأمثلته الشهيرة، ولعل هذه النكتة التي يتداولها أبناء مدن أيضا تعكس استبطانا جزءا من الصراع ( الاجتماعي) في داخل الشخصية العراقية بين البداوة والحضارة حسب تحليل الدكتور علي الوردي للشخصية العراقية.

كما قد تعكس هذه النكات استبطانا لآثار صراع ( تاريخي ) آخر هو الصراع الصفوي العثماني، كما سيأتي لاحقا.

من تلك النكات مثلا نكتة الأصدقاء الثلاثة ( كردي وعُربي وموصلي) يحتسون الشاي في مقهى وسقطت ذبابة في قدح كل منهم.

الكردي رمى الشاي بما فيه ( إشارة إلى نظافة الكردي وهي مسألة معروفة أيضا عند أكراد العراق).

العُربي شرب الشاي دون اهتمام ( وفي قول آخر أنه رمى الذبابة وشرب الشاي!).

أما الموصلّي فقد أخذ يعصر الذبابة ويقول لها: زتّي إللي شربتينو ( إرم ما شربتِ !).

وتقول نكتة أخرى أن موصليا وعُربيا ضلا طريقهما في الصحراء وأوشكا على الموت جوعا..فأخذ العربي يدعو الله ويصيح: يا رب كسرة خبز...كسرة خبز يا رب.

فقال له الموصلي بصوت منخفض : قلو قيمر ( أي قل له أن يكون مع الخبز قيمر، وهو القشطة في العراق).

ويحكى أن نملة قد غابت عن صاحباتها لمدة أسبوع، فلما عادت قلن لها أين كنت؟

فقالت لهن أنها كانت عالقة في محفظة شخص موصلي.

وهكذا تدور أغلب النكات، وبعضها مقتبس من نكات عالمية عن شعوب أخرى.

عمليا أي شخص زار الموصل وكان ضيفا على أهلها، يعرف أن ضيافتهم لا تعاني من أي مشكلة، وأن مائدتهم عامرة متخمة، موضوع الحرص والدقة في الحساب أمر آخر ولا يمكن إنكاره - والموصليون يفخرون به أصلا- لكن من أين جاءت هذه النكت؟ أو بالأحرى: مالذي جعل هذه النكت تتدفق على أهل الموصل تحديدا؟

حسب تفسيري، هذه النكات الرائجة عراقيا هي جزء من نتائج الصراع داخل الشخصية العراقية بين الحضارة والبداوة كما أشرت آنفا، ابن الموصل[2] المدينة تخلّص من هذا الصراع منذ قرون طويلة، وهو يتصرف على نحو مدني تماما، ويستضيفك على هذا الأساس أيضا، بينما هناك مدن عراقية كثيرة بقيت ( بين بين ) في الحضارة والبداوة، وبقي أهلها يعانون من الصراع ( المحسوم أصلا في أحيان كثيرة لصالح البداوة)، لذا فالموصلي الذي تخلص من الأمر يبدو مستفزا بالفعل لكثيرين ( وكذلك العاني[3]، الذي يشبه الموصلّي في نواحي كثيرة ويتعرض لنفس النوعية من النكات ايضا)

على سبيل المثال، المثال الشهير لحاتم الطائي الذي ذبح فرسه لضيوفه وهو لا يملك غيره، هذا المثال ( بغض النظر عن صحة الواقعة تاريخيا) يكاد يكون الرمز الأعلى للكرم عند العربي، ولا يزال يملك تأثيره على السلوك العراقي عموما، أعرف كثيرا من العراقيين يمكن أن يستدينون لكي تكون الوليمة التي يعدونها لضيوفهم ( حسب الأصول)، أي فيها على الأقل خروف واحد مع كل توابعه. أقل من ذلك سيكون العار والشنار بالنسبة لهم.

بالنسبة للموصلّي مثل حاتم الطائي يبدو غريبا ومرفوضا..الموصلّي سيتساءل: لماذا ليس عنده غير فرسه؟ لماذا لم يتخذ تدابير خزن المؤونة التي تكفيه ظروف القحط والجدب؟ ولماذا يجب أن يكون الطعام المقدم للضيف لحما؟ مم يشكو البرغل؟! مشبع ومفيد وصحي ويحتمل تخزين لفترة طويلة. إن كان هناك لحم فسيكون من جزار السوق، وليس من خروف يذبحه بنفسه، لأنه ابن مدينة. لا يربي مواشي!

القصة كلها إذن مرفوضة بالنسبة للموصلّي.

بالنسبة للبدوي في الصحراء، هذا النوع من الكرم هو طريقة من طرق النجاة..ببساطة هو قد يضطر بسبب الجفاف والجدب إلى الرحيل إلى منطقة أخرى أقل جدبا وقحطا وسيضيفه البدو فيها كما ضيفهم أو قد يضيفهم لاحقا. أي أن هذا النوع من الكرم ( المبالغ به ) هو طريقة من طريق العيش التكافلي والتضامني في الصحراء.

في الموصل الأمر مختلف، الموصل مدينة، الجدب والمجاعة فيها سيصيب الجميع ( بسبب ظروف طبيعية أو بسبب حصار) لذا فآليات الاستعداد للأمر مختلفة، وبالتأكيد لا تشمل التضحية بكل شيء في سبيل إطعام الضيف، بل تتضمن الاستعداد بمخزون أفضل يكفيك وعيالك ومن يدق بابك جائعا.

تخلص الموصلي من شبح حاتم الطائي الذي يسكن مخيلة الكثير من العرب، وكان هذا استفزازا لمن لا يزال حاتم يسكن فيهم...، لمن لا يزال الصراع في داخلهم بين الحضارة والبداوة محتدما...فكانت تلك النكات الشهيرة، التي لا تخلو من خفة دم.

هذه الطبيعة المختلفة لم تأت وليدة الصدفة بل كانت نتيجة ظروف معينة مرت بها الموصل في مرحلة من أهم مراحل تطورها وازدهارها. وأعني بها الفترة التي حكمت فيها الأسرة الجليلية الموصل بين 1726م لغاية 1834 م.

مر في مقال سابق أن تطبيق قانون الإقطاع العسكري قد أفرز صعود بعض الأسر والعوائل الموصلية التي تنافست فيما بينها على السيادة في المدينة، من ضمن هذه العوائل آل الجليلي ، وآل العمري وآل المفتي وآل النقيب وعوائل أخرى، واتخذ التنافس بينها أشكالا مختلفة، كان المال والأراضي الزراعية من ضمنها بالتأكيد، لكن كان ايضا هناك التنافس في إنشاء المجالس الأدبية والعلمية والمدارس المختلفة التي تدرس علوم الدين والحساب والفلك والفنون كما كانت تفعل المدارس في أهم مراكز الدولة العثمانية آنذاك، وقد انعكس هذا بالتأكيد على المدينة ككل على نحو إيجابي حتما ( ولعل بعض جذور اهتمام أبناء الموصل بالتعليم وتفوقهم فيه لاحقا تقع هنا في هذه المرحلة المبكرة).

المهم أن هذا التنافس قد حسم - على الأقل سياسيا- لصالح الأسرة الجليلية عندما بدأ العهد الجليلي في إدارة المدينة وتولي ولايتها. وهي ظاهرة أرى أنها كانت نادرة جدا بالنسبة للعرب المسلمين. سبق أن منحت الدولة العثمانية نوعا من الاستقلالية لأقليات حكمت نفسها بنفسها ضمن إطار الدولة العثمانية ( كما مع الدروز والموارنة في جبل لبنان ومع آل بابان من الأكراد) ومنحت أيضا رؤساء العشائر الكبيرة مكانة وألقاب لضمان سيطرتهم على عشائرهم، لكن لم يحدث - على ما يظهر- أن حصلت أي أسرة عربية مسلمة على أن تحكم المدينة التي تنتمي لها ولهذه المدة التي تزيد عن القرن. وكان لهذا ولا بد أثرا كبيرا على الشخصية الموصلية التي أثرت فيها الأسرة الجليلية أكبر تأثير.

بدأ الأمر مع إسماعيل الجليلي الذي كان أول من تولى حكم وولاية الموصل لمدة لا تتجاوز العام، لكن أهم الحكام الجليليين كان حسين باشا الجليلي الذي ربما كان القائد الموصلّي الأهم عبر تاريخ الموصل، إذ كان هو حاكم الموصل أبان حصارها على يد نادر شاه الصفوي وتمكن من الصمود، بل والانتصار على نادر شاه دون أن تأتيه معونة من جيوش الدولة العثمانية.

هذه الفترة بالذات، فترة المواجهة مع نادر شاه وحصاره للموصل هي التي أضافت صفة الحرص للشخصية الموصلية وطبيعة تكوينها.

الحصار الأساسي الذي حدث عام 1743 وانتهى بانكسار الصفويين دام قرابة شهرين. لكن كان قد سبق لنادر شاه أن حاول في سنتين متتاليتين 1732 و 1733 دون أن ينجح، أي أن حالة الحصار الجزئي وترقبه والاستعداد لها استمرت أكثر من عشر سنوات ، وكان هذا يتطلب تصعيدا في الاستعدادات التي شملت ليس فقط تحصين الأسوار وبناء المزيد منها، بل تخزين المؤونة اللازمة للصمود في الحصار.

كان من الأمور المفصلية هنا أن آل الجليلي أنفسهم كانوا تجار حبوب في الأصل.وبالتالي فقد كانوا أصحاب دراية ومعرفة بكيفية خزنه والاستفادة القصوى منه.وهذا ما حدث فعلا في تلك السنوات العشرة من الاستعداد للحصار وترقب الحصار والحصار نفسه، بعد كل شيء، ودون هذه الاستعدادات في خزن مؤونة القمح ، ما كان يمكن لمدينة محاطة بالأسوار من كل جهة أن تصمد لحصار قاسي استمر قرابة شهرين، بل وأن تحارب خلال ذلك وتنتصر.

كان ذلك انتصارا للبرغل وما يشابهه من أطعمة تعتمد على الحبوب القابلة للخزن لمدة طويلة....باعتبارها الأطعة التي تستطيع الصمود أمام الحصار..وظهر هذا جليا في مائدة الطعام الموصلّية التقليدية المتنوعة التي يعتبر فيها البرغل ومشتقات الحبوب أساسيا...

اندحار نادر شاه على يد حسين باشا الجليلي جعل منه رجل المهمات الصعبة في الدولة العثمانية، عينه الباب العالي في أي ولاية فيها اضطرابات ليحسم الأمور فيها، عين واليا لحلب ، للبصرة، لأضنة، لطرابزون، و ل (وان). و( قارص) وكلها ولايات مهمة بالنسبة للدولة العثمانية وكان حسين باشا الجليلي يعين كلما كانت هناك حاجة لإعادة الأمن والاستقرار، وكان يعاد بعدها إلى الموصل واليا ( عين سبع مرات واليا للمدينة!) وعرف بعدله وحزمه ( سجن شقيقه عندما تبين له وجود تقصير منه في مسألة ما أثناء غيابه، وكان لا بد لحزم وعدل حسين باشا ( حتى لو كان الأمر ضد قراباته) أن يؤثر على الشخصية الموصلية وجديتها.

استتب الأمر لآل الجليلي سياسيا قرابة القرن، بينما أخذت الأسرة المنافسة باب الريادة العلمية دون أن تنتهي المنافسة تماما، وفي وقت لاحق استثمرت الدولة العثمانية هذا التنافس لإنهاء الحكم الجليلي وتعيين والي من الأسرة العمرية دون أن يتحول الأمر إلى سلالة حاكمة كما حصل مع الجليليين..

بكل الأحوال كان العهد الجليلي في الموصل هو الأكثر تأثيرا في حياة المدينة اجتماعيا...كل الموصليين جليليون في جزء منهم على الأقل..بطريقة ما..وإن لم يدركوا ذلك...

[1] لاحقا صارت النكت تركز على الدليمي ، المنتمي لعشيرة الدليم في محافظة الأنبار، بدلا من العربي بضم العين. وهذا أمر جديد ليس أبعد من عقدين من الزمن.

[2] ليست الموصل وحدها هي التي تخلصت من هذا الصراع داخل الشخصية العراقية، فهناك مراكز مدنية مهمة أخرى لا يبدو أن فيها اثر لهذا الصراع

[3] من مدينة عانة غرب العراق

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل