المحتوى الرئيسى

أشرف بيدس يكتب «نجوم الفن الجميل – 9» : حسين رياض.. سندباد الزمن الجميل

11/13 21:38

واحد ممن يجيدون التسلل الى أدوارهم بسهولة ودون انفعال كيف ومتى يتم ذلك.. إنها القدرة على الذوبان والاندماج

كان "جوكر" يستطيع أن يجسد ويتعايش مع جميع الأدوار وهى قدرة اختص بها قليلون جدا

كان الخليط المقنع بين الشر والخير الطيبة والقسوة هو بحق السندباد الذى لا تقف موهبته عند شخصية مهما بلغت صعوبتها

هو السندباد الذى طاف القصور والنجوع والشوارع والحارات ليلتقط شخوصه، يذهب إلى الأحراش ودواوين الحكومة، يدخل كتب التاريخ، ويتفقد المصانع والورش، يلقى نظرة على البارات، ويجلس مع العامة بالمقاهى، يطرق أبواب البسطاء ليقتسم معهم الحكايات، يجمع التفاصيل الكبيرة والصغيرة لتعينه على أداء مهامه الجسام، وعندما يبدأ فى التشخيص تنسى ملامحه التى تتلون مع الأمكنة معبرة بأمانة وصدق عن كل خلجات هذه العوالم.. يذوب متلفحا بمفردات وأحاسيس تلك الشخوص التى يجسدها، لا فرق بين دور كبير وآخر صغير، عظيم الشأن أو من قاع المجتمع لتترامى أمامنا صور الإبداع على شريط السينما تدهشنا وتثير شجوننا.. إنه حسين محمود شفيق رياض (13 يناير1900 - 17 يوليو 1965).

نشأ "الفتى" فى حى السيدة زينب، وسط عائلة ميسورة الحال، والده كان يعمل فى تجارة الجلود، وبدأت علاقته بالفن عندما كان يصحبه والده إلى مسرح سلامة حجازى هو وأخوته مصطفى وفؤاد شفيق الذى أصبح ممثلا وشاركه فيلم «سلامة فى خير» حيث كان يؤدى دور صاحب المحل الذى يعمل فيه نجيب الريحانى، وكان لهذه الزيارات المسرحية مفعول السحر فى تحول حسين رياض نحو عالم الفن وولعه به، لدرجة انه حاول ان يكون مغنيا من شدة تعلقه بسلامة حجازى.

إذا كان الزمان هو عام 1918 فإن قرار الانتقال من الكلية الحربية إلى خشبة المسرح لم يكن سهلا على شاب فى بدايات حياته، ترفض أسرته فكرة التحاقه بالفن، وتلزمه بحسم وإصرار لا رجعة فيهما على المثول لرغباتها فى تحقيق حلمها بأن تراه ضابطا بالجيش. لكن الفتى -وقتذاك- يقرر حسم شأنه، وهو يعلم جيدا ما سوف يلاقيه من حرمان ومعاناة وجوع، فالابتعاد عن الفن أمر لا يستطيع احتماله حتى ولو كلفه ذلك الكثير.. كان قرارا جريئا وغير محسوب، فى زمن تحكمه تقاليد وعادات صارمة، إضافة لتدنى نظرة الكثيرين فى ذلك الوقت للفن، لكن رغبته فى الاشتغال بالفن لم يثنها شيئا .. لتبدأ الرحلة مع خلال جمعيات هواة التمثيل التى كانت منتشرة فى ذاك الوقت، والذى انضم إليها كثير من الشباب الذين لمعت أسماؤهم فيما بعد، وكان منهم حسين رياض، ثم سرعان ما توجه لفرقة جورج ابيض، ليلتقطه بعد ذلك عزيز عيد ويضمه لفرقته المسرحية، وينتقل منها لفرقة الريحانى ثم منيرة المهدية وأولاد عكاشة وعلى الكسار وفى عام 1935 ينضم للفرقة القومية.

عاصر حسين رياض بدايات السينما، فبعد أربع سنوات من انطلاقها يشترك أمام نجيب الريحانى فى فيلم «صاحب السعادة كشكش بيه» عام 1931 لتتوالى أعماله السينمائية وحتى آخر أفلامه «ليلة الزفاف» 1966 مثلت أفلامه علامة فارقة ومتميزة بين أبناء جيله وبلغ رصيده السينمائى 320 فيلما .

حسين رياض واحد ممن يجيدون التسلل الى أدوارهم بسهولة ودون انفعال، كيف ومتى يتم ذلك، إنها القدرة على الذوبان والاندماج. فى فيلم «حياة وموت» للمخرج كمال الشيخ، يؤدى شخصية صيدلى يقوم بتركيب دواء خطأ لمريض، وعندما نتذكر هذا الدور يخيل إلينا بأن تم تصويره فى مشهد واحد دون تقطيع، فمن أول لقطة حتى نهاية الفيلم وهو يلهث، متوتر، منفعل، يتصبب عرقا، يكاد المتفرج يسمع دقات قلبه، تتأرجح الأحداث مع انفعالاته المتتالية والتى لم تهدأ، وقد نجح ببراعة فى تصدير ذلك الشعور للمتفرج، وعندما يعرض العمل للمرة الألف نستمتع بقدرة الرجل وعبقريته وتميزه رغم التكرار.

فى «شارع الحب» لعز الدين ذوالفقار نرى "عم جاليليو" مرتديا جلبابا ممزقا عليه جاكت كاكى تكاد السيجارة تحرق أصابعه، محتضنا عوده، لحيته طويلة، رسم على وجهه المنطفئ البؤس والفقر والحاجة، بينما فى آخر مشاهد الفيلم نراه مرتديا الاسموكن، حالق الذقن، نضر البشرة يكب من وجهه الصفاء والطمأنينة والثقة وهو يقود فرقته الموسيقية.. انهما حالتان مختلفتان فى حاجة لممثل بارع ومتمكن حتى يستطيع المتفرج أن يصدق أن الأول هو ذاته مختار صالح الموسيقار الكبير.

فى فيلم «وا إسلاماه» شارك حسين رياض مجموعة من نجوم ذلك الوقت ولنلاحظ الأسماء جيدا (أحمد مظهر – لبنى عبد العزيز – رشدى اباظة – عماد حمدى – تحية كاريوكا- محمود المليجى – فريد شوقي) ورغم ذلك لم يبقى من الفيلم سوى جملته الشهيرة "انتى فين يا جهاد" حتى ان البعض تناسو اسم الفيلم مع الوقت وأصبح يشار له باسم (فيلم جهاد وسلامة)، ومقولة أخرى ظلت شائعة وهى " إنت هتغنى الليلة يا منعم" .. ورغم ان تراث السينما ملئ بالجمل الخالدة والذى حفظتها الجماهير عن ظهر قلب، وخصوصا لنجوم الكوميديا، تبقى هاتان الجملتان من أشهر ما قيل على الإطلاق، رغم تجاوزهما أكثر من نصف قرن، أما لماذا بقيت هذه الكلمات ؟ لا نجد إجابة سوى الصدق الذى أنطقهما وجعلهما يحتفظان بلياقتهما كل هذه السنوات!!

هناك أدوار لا يمكن الاقتراب منها، فهى تكاد تكون محجوزة بالاسم، ورغم ان كثيرين سجنوا أنفسهم فى ادوار بعينها، فإن حسين رياض نجح فى اجتياز ذلك بقدرته على التنوع والتجديد، ولو استعرضنا أعماله السينمائية نكتشف الفروق الكبيرة بين أدواره فمن السلطان الجائر إلى الشيخ الصالح، ومن الموظف المطحون إلى الإقطاعى المستغل، ومن المهرج إلى الحكيم، لقد كان "جوكر" يستطيع أن يجسد ويتعايش مع جميع الأدوار، وهى قدرة اختص بها قليلون جدا، ففى بداياته عندما جسد حاكم كندهار فى «سلامة فى خير» يفرض سطوته على الدور، ولم تنقص جماهيرية نجيب الريحانى منه شيئا، وهل يعقل أن يكون "إسماعيل" المستبد الغارق فى ملذاته «ألمظ وعبده الحامولى» هو ذاته "الريس عبد الواحد" باشجناينى حدائق افندينا فى «رد قلبى» والذى يكاد المتفرج أن يشتم رائحة الطين فى يديه، وفي«7 بنات» كان الموظف المثقل بالأعباء الذى تتدلى نظارته فوق أنفه لا يكاد يرفع رأسه، هو ايضا مدكور باشا فى «شفيقة القبطية» الذى يلقى تحت قدم معشوقته بالأموال والهدايا، وعندما يجسد دور "الجد" فى «آه من حواء» ضعيف الشخصية الذى لا يقوى على مجابهة حفيدته فى أداء لا يخلو من الكوميديا، يقدم ذات الشخصية فى «المراهقات» بطريقة شديدة الإنسانية والحنان، ويأتى آخر أدواره على الشاشة فى «أغلى من حياتى» أمام شادية وصلاح ذوالفقار عندما يجسد شخصية "عم نجيب" الذى تحرق من فراق "منى وأحمد" حيث كان الشاهد على نقاء علاقتهما، ان حسين رياض كان الخليط المقنع بين الشر والخير، الطيبة والقسوة، هو بحق السندباد الذى لا تقف موهبته عند شخصية مهما بلغت صعوبتها.

يعتبر حسين رياض من أكثر الفنانين الذين ادوا أدوار الأب، بل إنه احتكر تقديم هذا الدور على الشاشة، وعندما نتأمل أدواره نكتشف أنه كان يحمل ملامح من كل آبائنا من حنو وصرامة وطيبة وأحيانا قسوة إذا تطلب الأمر ذلك، فملامحه وإمكاناته التمثيلية المذهلة كانت تتيح له أن يفعل ذلك بسهولة واقتدار شديدين.

Comments

عاجل