المحتوى الرئيسى

نحن .. وهم .. وهذا الرجل

11/13 08:17

لم يعد سرا عداء الرجل للمسلمين؛ الذين نادى في ديسمبر ٢٠١٥ بحظر دخولهم الولايات المتحدة، كما ليس من قبيل الرجم بالغيب الحديث عن انحيازه بالمطلق لليمين الإسرائيلي؛ فهو أعلن صراحة أنه (بعكس سابقيه) سيعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأن لا اعتراض لديه على بنائهم لما شاءوا من مستوطنات / مستعمرات في الضفة الغربية.

لماذا إذن حظى الرجل بكل تلك الحفاوة في دوائرنا «الرسمية» والإعلامية؟

دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي القادم، والذي أدى دور لاعب بوكر في المسلسل التلفزيوني الشهير «Suddenly Susan» ثم حصل عام ١٩٨٩ على جائزة أسوأ ممثل مساعد عن دوره في الفيلم الكوميدي Ghosts Can’t Do It لم يكن يمثل هذه المرة (أو بالأحرى تلك المرات) حين خرج عن النص الذي أعده له معاونوه ليفصح عن آرائه ومواقفه في تصريحاته، وتسريباته المسجلة، وتغريداته «الليلية» على تويتر.

في ديسمبر ٢٠١٥ قال الملياردير، الذي دخلت حساباته الملايين، أو ربما المليارات من استثماراته وصفقاته مع دول إسلامية عدة إنه يطالب بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وهو التصريح الذي ارتبط حسب مركز الأبحاث الشهير Pew Research بزيادة في معدل «جرائم الكراهية» التي يتعرض لها المسلمون هناك.

في يناير الماضي (٢٠١٦) وفي لقاء متلفز مع David Brody قال دونالد ترامب ــ الذي لم يكن أحد يأخذه على محمل الجد وقتها ــ إنه يؤيد «مائة في المائة» نقل السفارة الأمريكية للقدس، معتبرا أن القدس هي عاصمة إسرائيل، مما يعنى واقعيا دفن القرار الأممي الشهير ٢٤٢ الذي اعتبر لعقود أساسا معتمدا للحل، ومما يعني، في قراءة اتجاهات الرجل، إنهاء أي حق مفترض للعرب أو للمسلمين في المدينة المقدسة، أو الأقصى الشريف. (وهو بالمناسبة موقف لم تتخذه أي من الإدارات الأمريكية السابقة).

الموقف من القدس، لم يختلف عن الموقف «المعلن» للرئيس الأمريكي القادم من مسألة المستوطنات. فردا على المدافعين عنه «هنا» والذين برروا تصريحاته بأنها تصريحات انتخابية، قال كبير مستشاريه Jason Greenblatt لإذاعة الجيش الإسرائيلي (بعد يومين من انتهاء الانتخابات): أن رئيسه لا يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية، كما لا يعتقد أنها تمثل عقبة في طريق السلام.

 … doesn’t think Israeli settlements should be condemned and they don't pose an«obstacle to peace.»

تصريحات الرجل «المعلنة» بشأن المسلمين وإسرائيل، لا تختلف عن مواقفه المعروفة من دول الخليج، التي يرى أن عليها أن تدفع «نقدا» فاتورة ما تقدمه لها الولايات المتحدة من حماية، أو من المكسيكيين الذين ينادي ببناء «جدار بيننا وبينهم» يدفعون هم تكلفته، أو حتى عن المرأة «الأمريكية» التي لا تخرج نظرته إليها عن كونها دمية جميلة للترفيه.

لا يعني ترامب منفلت اللسان عادة ما يقول. أو لعله لا يعي تماما ما يقول. (على الرغم من أن كثيرا من المستبدين يجيدون الكلام والخطابة، فهكذا كان هتلر، فإن التاريخ يعرف أن منهم أيضا من كان يتسم خطابه بالهرتلة) فعندما انتشر عن الرجل أنه يريد إنشاء قاعدة بيانات للمسلمين في أمريكا (وهو ما فعله النازي مع اليهود بدايات القرن الماضي) سأله صحفي في NBC عن الفرق بين سجل أمريكى للمسلمين وذلك النازي لليهود، فلم ينف أو يستنكر، بل اكتفى بالقول: «أنت أخبرني».

لا جديد فيما سبق عما نعرفه جميعا عن الرجل، الذي اعتبر وصوله إلى البيت الأبيض زلزالا لم تعرفه العلاقات الدولية منذ انهيار حائط برلين في مثل تلك الأيام من عام ١٩٨٩ والذي يظل من قبيل مفارقة التاريخ أنه كان في اليوم ذاته الذي انتخب فيه دونالد ترامب (التاسع من نوفمبر). 

ماذا يعني انتخاب الرجل لنا.. وللعالم.. وللولايات المتحدة الأمريكية.. وللنظام العالمي الجديد؟

الإجابة معقدة، خاصة ونحن نتحدث عن رجل بلا تاريخ معروف، إلا إذا اعتبرنا أن المضاربات والتهرب من الضرائب وملاحقة النساء تعد تاريخا يمكن لنا الاعتداد به. ولكن ربما وجدنا في قراءة ردود فعل اللحظات الأولى السطور الأولى من الإجابة.

الرئيس المصري، حسب ما قالت الصحف المصرية كان أول المهنئين (ودعاه إلى زيارة القاهرة)

مارين لوبان؛ العنصرية اليمينية المتطرفة، كانت أول السياسيين الأوربيين المرحبين (بتغريدات على تويتر تتحدث فيها عن عالم جديد).

أول التصريحات الإسرائيلية جاءت من اليمين الإسرائيلي على لسان الوزير السابق جدعون ساعر الذي قال: إن بانتخاب ترامب «عصر الدولة الفلسطينية انتهى» The era of a Palestinian state is over

وبالطبع كان الروسي بوتين على قائمة المرحبين.

على الناحية الأخرى تحفظ الفرنسيون، مؤكدين أن فرنسا ستدافع عن «قيم التعايش والحرية»، ولم تخف انجيلا ميركل التي كانت أكثر المدافعين عن حقوق المهاجرين قلقها.

هل تعني هذه المواقف، أو بالأحرى هذا التباين شيئا؟ أظنها تعني الكثير. وعلى هامشها تبقى ملحوظتان:

ــ فالإسرائيليون على الرغم من ابتهاج يمينييهم، لم يخفوا عدم رغبتهم في إعطاء الرجل الذي أعلن أن ابنته «تهودت» على يد حاخام أمريكي «شيكا على بياض». لأنهم، حسب ما يقول بن كسبيت في «معاريف» لا يثقون في رجل بلا تاريخ معروف، كما لا بد لهم أن يقلقوا من مواقفه العنصرية التي يمكن أن تسفر في نهاية المطاف عن «عداء للسامية».

ــ أما الذين ابتهجوا هنا، بنجاح المرشح «الجمهوري» معتقدين أن هذه نهاية التطرف والإرهاب فينسون أن جورج دبليو بوش (الجمهوري) هو الذي ذهب بجيوشه إلى العراق تحت لافتة «الحرب على الإرهاب» فلم تكن النتيجة إلا تفاقم الإرهاب وقوة الإرهابيين. كما ينسون إن إدارة أوباما «الديموقراطي» هي التي تخلصت من بن لادن؛ الرقم الصعب. وأنها هي التي تقود التحالف ضد تنظيم الدولة / داعش في العراق.

 أيا ما كانت ردود الفعل؛ الحكيمة، أو «قصيرة النظر» هنا وهناك، تبقى حقيقة أن الأمريكيين اختاروا الرجل الغارق لأذنيه في منازعات قضائية متنوعة (ضرائب، وتشهير، واستغلال صور نساء، ونوادي قمار) يصل عددها إلى ٤٠٠٠ حسب تقرير لـ USA Today فهل يمثل هذا الرجل الأمريكيين؟ 

بالتأكيد هو يمثل الذين انتخبوه. ولكن هل يمثل القيم الأمريكية التي بتنا نعرف؟ «احترام التنوع، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير... الخ» والتي مكنت هذا البلد من حسم الحرب الباردة قبل سبعة وعشرين عاما، لتصبح القوة الأكبر في عالم اليوم؟ 

يجسد ترامب أسوأ ما في هذه البلد / القارة. أو بالأحرى أسوأ ما في تاريخها: الرجل الأبيض الذي ذهب قبل خمسة قرون يبحث عن الذهب في «فرجينيا»، أو عن الخلاص الديني في «نيو إنجلاند». ثم لا يتردد، معتقدا أنه «الأرقى» في أن يبيد في طريقه السكان الأصليين، أو أن يصطاد الأفارقة من أدغال القارة السوداء ليستعبدهم في مزارعه الشاسعة التي كان سند ملكيته الوحيد لها هو قدرة حصانه على الدوران حول حدودها، ثم قدرة سلاحه على الدفاع عنها. في زمن لم يكن له قانون غير سطوة القوة.

من درس تاريخ الولايات المتحدة يعرف كيف كان الطريق إلى قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان التي صنعت الدولة العظمى اليوم طويلا وشاقا ومضرجا بالدماء. وكيف أن أربعة ملايين من الأمريكيين الأفارقة (الذين كانوا عبيدا) لم يحصلوا على حريتهم إلا بعد حرب أهلية خاضها إبراهام لينكولن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة (الذي أكد في خطابه بجيتسبيرج على إعلان جيفرسون بأن «جميع الناس خلقوا متساوين») ضد ولايات الجنوب المؤيدة للعبودية قُتل فيها ما يزيد على ٦٠٠ ألف جندي.

دون الدخول في تفاصيل معروفة، فقد كانت حرب لينكولن لتحرير العبيد والتي استمرت أربع سنوات (١٨٦١ــ١٨٦٥) ليست أكثر من بداية لطريق طويل للتخلص من القيم التقليدية المتغطرسة للرجل الأبيض الذي يظن أنه الأرقى والأفضل، ولصياغة قيم جديدة تقوم على المساواة والعدل واحترام التنوع، واحترام الآخر؛ أسود كان أو مسلما أو امرأة. وهي القيم التي لا ينتمي إليها دونالد ترامب، أو أولئك الذين انتخبوه غير راغبين في مزاحمة أولئك الآخرين لهم.

الطريق الأمريكي الطويل الذي بدأه لينكولن في القرن التاسع عشر، عرف محطات كثيرة وأسماء كثيرة، مدافعة عن التعايش والمساواة وحق «الآخر» منها مارتن لوثر كينج (١٩٢٩ ــ ١٩٦٨)، ومالكوم إكس (١٩٢٥ ــ ١٩٦٥). والاثنان اغتيلا على يد المتطرفين مثلما اغتيل لينكولن، ولكنه عرف أيضا جوزيف مكارثى (١٩٠٨ ــ ١٩٥٧)، وحركة كو كلوكس كلان Ku Klux Klan العنصرية التي تؤمن بتفوق الجنس الأبيض، وتمارس العنف والإرهاب، وتنادي «بحرق» كل ما هو آخر. ثم ها هي تعرف دونالد ترامب، الذي لم يكن من قبيل المصادفة أن تؤيده علنا بقايا جماعات «كلوكس كلان» هذه. 

ليس متحذلقو الانتلجنسيا، من الكتاب الكبار، أو «نخبة واشنطن الفاسدة» كما أسمتها أبواقنا الإعلامية هي التي تخلت عن حيادها التقليدى لتقف «صراحة» أمام ترامب. بل أولئك الذين يدركون أن أمريكا لم تصبح الأقوى إلا بثراء تنوعها. وأن قائمة «الأمريكيين» الحاصلين على نوبل في العلوم تضم أحمد زويل «المصري المسلم»، وشوجي ناكامورا «المولود في اليابان». أولئك الذين يدركون أن أمريكا لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم علمي وتقني ومعرفي لتتربع على قمة العالم إلا بعد أن عرفت قيمة المساواة وحرية التعبير، «وحق الآخر»، وإلا بعد أن فتحت ذراعيها لإدوارد سعيد «الفلسطيني» ليدرس في أكبر جامعاتها، ولوولي سونيكا؛ الأديب النيجيرى المدافع عن حقوق الإنسان، ولعصام حجي «المصري» لينضم إلى فريق علمائها الباحث في تربة المريخ البعيد، ولعبدالفتاح جندلي السورى الذي أنجب «ستيف جوبز» العبقري الذي غير مفهوم الهاتف باختراعه iPhone كأول سمارت فون.

هذه هي أمريكا القوية بتنوعها، واحترامها للآخر وحقوق الإنسان، وليست تلك التي يتحدث عنها ترامب عندما وقف أمام فوهات المدافع صارخا بشعاره  «Make America Strong Again»، ولكنه في الوقت ذاته يرفض دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يتردد في التعبير عن ازدرائه لذوي الأصول الأسبانية، ولا ينظر إلى المرأة بأكثر من كونها دمية جميلة يتسلى بها.

ما الذي جرى في أمريكا تلك؟ وكيف وصل الرجل عبر انتخابات «ديموقراطية» إلى سدة الحكم ليهدم أسس الدولة الكبرى (بهدم قيمها) إذا تسنى له ذلك؟

الإجابة عند الذين درسوا تجربة صديقه الحميم «بوتين»، كما غيره من الذين يجيدون لعبة «الورقات الثلاث». لعب ترامب على وتر «الحنين إلى الماضي»، رافعا الشعارات الفاشية ذاتها «أمريكا فوق الجميع». ثم كان واقعيا أن استغل كل ما هو وضيع في مشاعر الضعفاء ليحرضهم على «ضعفاء آخرين»، فكان أن أيدته الفئات الأقل تعليما من البيض من أبناء الطبقة العاملة، والذين استشعروا القلق من منافسة القادمين من أقليات إثنية ودينية أخرى، والذين يحرصون على التعليم واكتساب المهارات ليتمكنوا من أخذ مكانهم في مجتمعهم الجديد. لم يدرك ترامب، أو لعله لم يكترث بخطورة تنامي مشاعر الكراهية تلك. كما لم يدرك أن «فسيفساء التنوع» تلك هي وحدها، ووحدها فقط كانت السبب وراء قوة الولايات المتحدة الأمريكية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل