المحتوى الرئيسى

عندما قررت محاربة د. مصطفى محمود

11/12 22:04

قررت أن أشن حرباً ضد د. مصطفى محمود وأنا لم أزل بعد مراهقاً فى العشرين من عمرى.. ذلك أنه هاجم المدرسة السيريالية فى الفن التشكيلى بمقال له فى مجلة «صباح الخير» هجوماً عنيفاً.. ووصفها بأنها مجرد شخابيط لفنانين مأفونين.. أو أفاقين يضحكون على المتلقين.. وشاب مقاله الخلط بين السيريالية والتجريدية.. فقررت أن أكتب مقالاً نارياً أتهمه فيه بالجهل الفنى.. وأستنكر أن مفكراً كبيراً مثله يتصدى بالكتابة فيما لا يعلم ومدى خطورة تأثير ذلك على القراء الذى يثقون فى علمه ويؤمنون بأفكاره.

ماله هو ومال النقد التشكيلى وكيف يجرؤ على السخرية من «سلفادور دالى وبيكاسو»؟!

اتجهت بالمقال إلى الأستاذ «لويس جريس» رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» فى ذلك الوقت، فاستقبلنى بأدبه المعهود بود وتواضع جم وأكد لى أن حق الاختلاف مكفول للجميع فى مجلة القلوب المتحررة والعقول المتفتحة.. وأشعرنى أنى مفكر كبير وفيلسوف أريب لا أقل قيمة أو مكانة عن «ديكارت» شخصياً، فلما قلت له إن «ديكارت» رهن وجوده ومن ثم فلسفته على الشك وشعاره: «أنا أشك إذاً أنا موجود».. بينما أنا لا أشك فى تردى «مصطفى محمود» فى خطأ فادح.. بل إنى متأكد من ذلك قال لى:

- حسناً.. أنت فيلسوف شعاره أنا متأكد.. إذاً أنا موجود..

المهم أنه وعدنى بالنشر فوراً فى العدد المقبل.. لكنى انتظرت أسبوعاً وراء آخر.. ولم ينشر المقال ففكرت فى كتابة مقال أهاجم فيه «لويس جريس» أتهمه بخداعى ومحاباة «د. مصطفى محمود» خوفاً من نفوذه كمستشار لرئيس دولة العلم والإيمان.. ولكنى عدلت عن ذلك عملاً بنصيحة صديق شاعر ينشر شعره بمجلة الحائط بقصر الثقافة الذى نلتقى به مع سنابل الأدباء والشعراء والفنانين الطالعة.. فقد أرسل صديقى نثرية رائعة تنتمى إلى مدرسة «قصيدة النثر المغتربة فى واقع ملتاث».. عنوانها «مرثية تعسة فى أفق القتامة البهيجة تتعانق مع إرهاصات اللاجدوى المشرقة الطالعة من بشاعة.. اللانهائية الساقطة فى العدم».. أرسل القصيدة إلى «صلاح عبدالصبور» أيام أن كان رئيساً لتحرير مجلة «الكاتب» ولم ينشرها.. فاعتبر صديقى أن «صلاح عبدالصبور» قد خاف على شعره التقليدى المتهافت من تفوق نثر صديقى الشعرى عليه.. تماماً مثلما خاف «شوقى» على الفصحى من عامية «بيرم التونسى» مقرراً أن يترك الحكم للتاريخ.. فالمستقبل لنا.. وهؤلاء الشيوخ المتداعون ليسوا إلا ضيوفاً على زماننا.. فالحكمة تجاهلهم حتى يرحلوا.

لكنى أصررت على نشر المقال.. واتجهت به إلى صفحة الثلاثاء بجريدة المساء.. وهى صفحة متخصصة فى الفن التشكيلى كان يشرف عليها الأستاذ «كمال الجويلى»، ويكتب فيها كبار النقاد التشكيليين فى ذلك الزمن الجميل مثل «محمود بقشيش» و«صبحى الشارونى» و«حسن سليمان» و«عز الدين نجيب» و«مختار العطار».. ونُشر المقال فأصابنى نشره بغرور عظيم الشأن.. وزاد من تورم ذاتى المنتفخة وخاصة أن «د. مصطفى محمود» لم يرد علىّ كما توقعت فأيقنت أننى أفحمته بقوة منطقى.. ودحرته برصانة حجتى.. أما والدى -رحمه الله- فقد قرر بَرْوَزة المقال وتعليقه على جدار فى حجرة الضيوف.. لكن والدتى رفضت رفضاً قاطعاً حيث إنها كانت تؤمن بالحسد.

المهم أننى قررت أن أواصل الهجوم على «د. مصطفى محمود».. بل على كل كاتب لا يروقنى أسلوبه.. متقمصاً شخصية «د. طه حسين» فى بداياته.. حيث كان يكتب مقالات نارية يهاجم فيها «المنفلوطى» هجوماً شرساً وقاسياً.

وعبثاً حاول «لطفى بك السيد» الذى كان ينشر له فى جريدة «الجريدة» التى يرأس تحريرها أن يثنيه عن ذلك، ناصحاً إياه أن يُقسط.. أى يعتدل.. دون جدوى رغبة منه فى ذيوع اسمه بحثاً عن شهرة آتية لا ريب فيها.

لكن خاب ظن نفسى فى نفسى بتوالى قراءاتى لمؤلفات «د. مصطفى محمود» فإذا بى أقع فى براثن حبه منبهراً بعمق فكره ونفاذ بصيرته.. وعلمه الواسع.. وبديع أسلوبه الأخَّاذ الذى يتمتع ببلاغة وجاذبية آسرة.. فالكلمات تتدفق فى إيقاع ساحر.. والسرد ينساب فى عذوبة وسلاسة ليتعانق مع طرحه العميق، وحكمته الكبيرة ومنطقه المحكم فى الكثير من القضايا الجدلية التى يتناولها.. وموضوعيته التى تشمل مجالات الفلسفة وعلم النفس والأدب والدين والطب والفلك والسياسة.

لقد استولى على عقلى وحواسى وكيانى كله.. وصرت متأهباً دائماً للدفاع عن أفكاره التى صارت أفكارى، ثم اكتشفت بعد ذلك حماقة ما أقدمت عليه، فالمرأة لا تحب الرجل لا قارئاً ولا كاتباً.. ولا مثقفاً.. وهى كلما سمعت كلمة ثقافة أخرجت «مطوة قرن غزال»..

والدليل أن محبوبتى تزوجت أول عريس جاهز مادياً صادفها.. أما أنا عندما تزوجت فقد خيرتنى زوجتى -فى مواجهة صريحة ودون مواربة- بين تحويل حجرة مكتبى إلى حجرة للطفلتين.. أو الخلع.. فلما أخبرتها أنه لا خلع فى المسيحية، أكدت أنها سوف تغير «الملة».. ومن ثم تطبق عليها الشريعة الإسلامية.

حول هذا المعنى يؤكد «د. مصطفى محمود» فى كتابه «فى الحب والحياة» أن المرأة عملية ولا تحفل كثيراً بقضايا الفكر والثقافة المجردة، إن بيتها هو العالم وأولادها هم الإنسانية.. وحينما يخرج رجل مثل «سقراط» على تقاليد بلده ويخرب بيته فى سبيل أفكاره الإنسانية، فإن زوجته تلطم على خديها ولا تفهم كيف يفعل رجلها المجنون تلك المصيبة.

أما كتاب «الله والإنسان» الذى ألَّفه «د. مصطفى محمود» وصدر عام 1957 وتضمن أفكاراً تراجع عنها فى رحلته الطويلة من الشك إلى الإيمان، فقد قرأته عدة مرات آخرها قريباً بعد ما نشر نص الفتوى الرسمية بالرأى فى الكتاب الصادر عن دار الإفتاء، والذى وضح كيف سمح المناخ الثقافى المتسامح والعقلانى فى الخمسينات والستينات أن تخرج تلك الفتوى بلا دعوة للمصادرة ولا اتهام بالكفر.. وكيف أن عدم وجود الجماعات التى تصدر فتاوى التكفير ساعد المفتى على إصدار فتوى بعيدة عن التأثر بمخافة الاتهام فى دينه إن خرجت تلك الفتوى فيها رفق ورأفة بالكاتب..

حيث أكد المفتى الشيخ «حسن مأمون» فى الفتوى أن الكاتب عنى بتمجيد العقل والعلم والحرية وإظهار أثرها فى تقدم الفرد.. والأمة.. وأنهى فتواه بعبارة: «نسأل الله لهذا الكاتب وأمثاله الهداية والرجوع إلى الحق فإن الرجوع إلى الحق فضيلة والله أعلم».

نرشح لك

أهم أخبار توك شو

Comments

عاجل