المحتوى الرئيسى

الفرح المختلس

11/11 02:25

الحلقة الثانية من الملف الذي افتتحه ملحق «السفير الثقافي» بعنوان «أصوات شعرية جديدة» (28 تشرين الأول/ اوكتوبر الماضي) والذي بدأه مع أصوات جديدة من لبنان. الحلقة الثانية اليوم، مع شعراء شبّان من مصر، يأتون بكلّ نضارتهم وبأصواتهم المختلفة، ليخلقوا لنا مشهداً مختلفاً وفضاء يستدرجنا إليه.

«أيّها الشعر. يا أيها الفرح المختلس. كلّ ما كنت أكتب في هذه الصفحة الورقية، صادرته العسس». هكذا وصف أمل دنقل منذ سنين فرحه المختلس: الشعر. وهو وصف يصلح للكتابة كلها.. ويمتدّ من أمل دنقل إلى الأجيال الأحدث. الوصف وحده، ولكن الكتابة الجديدة تتجاوز أمل وصلاح عبدالصبور وحجازي... تستفيد منهم كما تستفيد من آخرين بداية من شهرزاد.. والمتنبي وأبو نواس، وادونيس ووديع سعادة، وسركون بولص.

المشهد الشعري المصري الجديد مشهد معقد، متعدد، أجيال جديدة تتجاوز الإشكاليات القديمة حول التفعيلة والنثر، الحرية هي أساس المشهد بعيداً عن التصنيفات والمعارك السطحية.

هنا قصائد من شعراء مصريين، بعضهم ينشر للمرة الأولى، والبعض الآخر أصدر ديواناً واحداً. لذا لا تعبر القصائد عن المشهد الشعري المصري كله، بل هي جزء من هذا المشهد المتعدد والثري. نحن أمام قصيدة تستوعب منجزات الحداثة وما بعدها، تستوعب وتمتص ما سبقها، لتنتج أسلوبها الخاص، أيضا المتعدد حيث اللغة البسيطة، وحيث العوالم الأسطورية والفولكلورية، تستلهم الصورة الجديدة، أو تحيلك إلى ألبومات موسيقية، ولا تحمل يقيناً تجاه العالم أو انحيازا إيديولوجيا مغلقا، إنها قصيدة عن خراب العالم... قصيدة همّها الأكبر هو التجريب... وحدها غواية التجريب، وهز الثابت واليقيني... قصيدة لغة وشكلا ومضمونا هي بمثابة «ثورة»... على السلطة الأبوية، والثوابت المقدسة. بالتأكيد لا يمكن القول إن هذا هو كل المشهد الجديد، فقد استبعدنا أسماء لها انجازاتها وتجاوزاتها وحضورها، لنركز على أصوات هامة... تبحث عن صوتها الخاص، كما أن الشعر بالنسبة إلى كثيرين منهم هو جزء من انجازهم، ليس على الهامش، ولكن لأن الكتابة بالنسبة لهم هى «كتابة» سواء أكانت في قصيدة أو قصة أو لوحة!

مركب على حجر بقرب البحر

حلم قبل سنتين أن يركب البحر، ويهرب.

مركب على حجر بقرب البحر

قد يكون معلمًا بالمدرسة الموجودة بالحي المجاور

أصابه الضجرٌ بعد انتهاء دوامه بالثالثة

ولم يعرج على المقهى ككل مساء.

ثم يحكي لهم قصصًا عن القراصنة ووحوش المحيط.

مركب على حجر بقرب البحر

أعبر كل ليلة للطرف الآخر من العالم،

بدا بيتنا مطعونًا بشيء ما؛

يضغط بقوة على رأس أبي،

حتى جعله كتلةً صمّاء مُعتمة.

من تلك النقطة البعيدة رأيت بيتنا يتلاشى،

يمكن فرشها كحصيرة من الخوص في مأتم،

لكنني كلما اقتربت رأيته مجسمًا.

أود أن أقول لكم: إنني

هنا لم يعد سوى الحفرة

سأقول لكم أيضا: إنني كنت

أقابل أمي في ميدان ضائع،

كنت ألقيها على الرصيف العاري،

الآن، أنا سعيدة جدا، لأنني

كلما تحدثت إليكم، انغرست أكثر في الأرض

ولم أعد أرى حتى نفسي

وصلتُ لتلك الجزيرة المعزولة بذاكرة غائمة.

لا أذكر موطني أو أخوتي،

فقط خطوات قدم لقطة صغيرة

قادتني لبهجة الكشف عن سلالم سُفلية ملونة بالأزرق،

تصلك بباب خشبي بسيط وجميل لم أطرقه يوما.

أبحث بين شجر الجزيرة عن ثمرة خوخ طازجة،

تشبه تلك التي قذفني بها شاب من فلاحي المنصورة،

تحية من راكب قطار عابر لآخر،

كان مذاقها لذيذا كلكنة حديثة.

أحنّ للعجوز التي شهقت «يا بتّي» حين سقطت أرضًا جوارها

تمسح بيدها رأسي وبطرف ملاءتها تمسح ثوبي المتسخ

أدندن أغنية سائق أسكرته المحبة

«ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني... إلا عيونك أنت»

ها أنا عدت غريبة، خفيفة، لا أنتمي سوى للعابرين

صالحة للولادة من جديد، فهب لي اسما.

وأميل بجذعي للأمام وأنا أحاول رفع رأسي

ومن جديد أتخلص من الهواء الفارغ داخلي

ثم أدخل برأسي كهف جسدي

هذه المرة أنظر إلى أسفل

أصبح لا أحد على الإطلاق

وكل شيء في الوقت نفسه

عنقي يصدر صوتًا لا يليق برقة شكل الترقوة

لم يكن من الممكن أن أتخلص من ذلك التاريخ

بمجرد ساعة ونصف من التدليك

كل من مروا حمّلوني ثقلًا

وها أنا أحاول أن ألقيه على أعتاب وضع القطة

مشيت كثيرًا دون أن أتعلم الاتكاء على أحد

كتبت كثيرًا دون أن أدرك معنى

تتعلم أن تزيل أوجاعك من فوق البساط الملون

فشلك في تنظيم تنفسك وأصوات مفاصلك الصدئة

ولن يستطيع أي كوكب كان

أن يحتمل كل هذه الشرور دفعة واحدة.

أريد للإنسانِ أن يكف عن النسيان

أريد للبواخر أن تشقّ هذا الفراغ الهائل

الذي يبدأ من باطن كفّي

وكيانات الحزن مسيطرةٌ على العالم

إننا إبانَ ترتيلة واحدة للوحدة

يحمل الكتب التي لم أقرأها

في دَينٍ واجبٍ على الجغرافيا

يطير حرًا عن صورته ويسقط

لا يعكس وجهه سوى المرآة

لا تعبر سوى عن حزني

وليست سوى ترتيبا آخر لقوّة الطبيعة

أتجنب الطرق المختصرة إلى المنزل

كي أطيلَ المسافة بيني وبين آخر الليل

المشي تسلية كما تمرّر الوقتَ تستضيفه

وكل النظرات التي طالت عينَي في النهار

ولم يصلني منها غير الخواء تثقل خطواتي

تتساقط أمامي فأضطر إلى دهسها بين الكعبين وطين الأمطار

مجهود بُذل لخلقِ علاقة ما يُدهس الآن تحت الحذاء

عيون يمسّها احتمال بالألفة وتعتبره قليلا

في المسافة أمواج تلاحق كل منها الأخرى

فتصل إلى الشاطئ كتلة واحدة

تُصلّب الجسد لتُسمّى حركتُه الآن معجزة،

الغد لا يعود مثيرا للاهتمام

قدر الدهشة من سكون الأمس

(الأمس: كلمة لها شكل غير واضح لكنها تُلفظ بثقة)

وخروج أبدي من فقاعة التوتر يحدث في لحظة غائمة

شيء ما لا أطيقه يتكور ثم يختفي في المسافة كما في كف ساحر.

إذا حاولتَ أن تأخذني إليك

إذا حاولت أن تأخذني إليك

إذا حاولت أن تأخذني إليك

لا تحزن يا طابع البريد

وألصقك على مظروف مسافر لبلاد حبيبتي البعيدة..

بينما تصعدون الجبل، سأرعى السفوح

المتشرد الذي يحمل في قبعته المثقوبة مدينة، يبتهج أطفالها كلما تمطر، ويعزو موظف حكومي ضيقه من البلل إلى كم إذعان لم يحتمله طائر كنار، كانت الجدة قد جلبته من جزيرة، أفلتت من النسيان بفضل لقطة جانبية للحفيد المراهق وهو يفكر: كم من المحزن ألا يلتفت أحد للمسة حانية، يخص بها المتشرد قبعته الرثة وقت اشتداد المطر...

الطريق التي عُبدت بوطء أقدامهم جيئة وذهابا، تصر على اختبار نفسها كل شتاء؛ علها تنجح في الاحتفاظ بآثارهم على سطحها الموحل الذي يماطل معولا على ذاكرة هشة، تُبرّئ الجميع من تهمة الرحيل...

في مساء الخميس، نظرة متمهلة على الطريق ذي الاتجاهين: بعرباته المسرعة؛ خلاصا من ضجر ما بعد الظهيرة، بجانبه المبدد تحت الوجود الثقيل لأسوار النادي الملكي، وجانبه المقابل حيث صف بيوت يشهد محاولة امرأة القبض على شيء يتفلت منها، في ذات اللحظة التي يدق فيها غريب ـ أتت به لقمة العيش ـ جرس الباب...

بخطوات قليلة قطع المكان جيئة وذهابا، حدد أبعاده، لوى عنقه ناظرا للسقف؛ فأقنع نفسه بالحاجة إلى نسختين أو ثلاث من قامته القصيرة، جرد كل الأشياء التي ـ على حقارتها ـ ستبقى بعد رحيله، وراجع قائمة وجوه من المفترض أنها شاركته شيئا ما محتفظا لنفسه بكآبة جهله بها، ودون أن يعد العُدة لأي شيء، جلس عند الزاوية منكمشا، يشع المقطع الأخير من شفرة ضوئية، أرسلها فضائيون، كفوا منذ سنوات عن ملاحقته...

أسروا إليه بإحياء ديانة مندثرة...

الأمر شديد البساطة ـ هكذا أخبروه ـ ما من تعاليم، لا وجود للحلال والحرام...

ـ يحق للفرد ابتكار الكتاب الذي يرتضيه، بشرط الحفاظ على سريته والالتزام بكل ما ورد فيه.. ولك الحق في تعديله أو استبداله كل خمس سنوات.

ـ بالتأمل الصامت كلما انتبهت للخط الرهيف بين الضوء والظلال.

ـ مرة كل عام، إلى مدينة لم يسبق لك دخولها، وليس لك فيها معارف، تأتيها عند الظهر، وتقضي أسبوعا كاملا إجهادا للذات في القبض على لحظة منسية...

ـ الرنين المعدني لارتطام إناء بأرضية المطبخ في بيت يعمل أهله بالتجارة،

أو استقبال أذن بعد منتصف الليل شهقة رضيع يحن إلى صدر أمه الميتة...

هل يحق لي دعوة آخرين إلي العقيدة؟

ـ يحق لك كل مائة عام دعوة غريب زارك في الحلم على الأقل ثلاث مرات...

ـ بالسؤال... سؤالك الأول جعلك واحدا منا!

ـ باتخاذك القرار؛ سيأتيك رسول لاستلام الكتاب، وإذا عُدت لقراءته؛ ستُقتل في ليلة مقمرة على العشب...

وماذا عن علاقتنا بأبناء العقائد الأخرى؟

جحدوه بنظرة قاصمة من خيبة الأمل، ثم انصرفوا مرددين: مثل الجميع، لم يفهم شيئا.

بتخييم شبح الحرب الأهلية غادر الأطفال إلى القرى البعيدة، تاركين بائع غزل البنات لتعاسة اللاجدوى الزاجة به إلى تدمير بوق كرتوني، طالما أعلن عن مروره بصياح إوزة، تقشعر الأبدان لظهورها الشبحي على عتبة غرفة، وجدوه معلقا من سقفها، وعند مستوى قدميه الحامل الخشبي يشهد أسراب نمل، تأتي على الأكياس.

لم يعد الأمر يُطاق، فصلنا النقيق عن العالم، وتكاثرُ الظلال عن ذواتنا، تبخرت العزائم في مرجل العزوف عن الرغبات، وصار من المشاهدات اليومية سؤال أحدنا الغرباء طريق بيته... وقبل أن تتفاقم الأمور، صرخ أقلنا اضمحلالا: فلنبتهل للفرعون؛ عله يأذن بخروج موسى.

قبل الشروع في بناء الهرم، جمع الفرعون المتطوعين في معسكر سري، أجزل لهم العطاء: طعاما وملابس وترفيها... أقسم على خوضه مفاوضات مكثفة؛ لتنصيبهم كهنة عند دفنهم! حاضرهم ـ بنفسه ـ ثلاث ليال قمرية، انتهت بتخليهم ـ طواعية ـ عن ذكورتهم، وفي الليلة الأخيرة أقام لهم احتفالا مترعا بأجود أنواع الخمور، حتى غابوا عن الوعي، فانطلقت كتيبة الأطباء بترا لألسنتهم.. ما كانوا ليدركوا هلعه المقيم من كارثة بابل.

كلبة ضالة تسقط الجراء ويفر الجميع من جلدها المتقيح

أحط علي يدك النظيفة ليرتعد جسدك الكاذب

وينقلب وردك الليلي لأغنية من اغنيات الرقص البذيء

تتمتم لأشباح يصدقون انك تراها

وانبح من ورائك لأني ارى الشيطان

انا ايضا سقطت مسبحتي الصوفية

وابنائي تاهوا جميعا في الشوارع المغبرة

واسيت اصدقائي وهم يذبحون اولادهم امام اعينهم

غسلت الارصفة من الدماء ولملمت عظام المساكين

لأبني مقاما يقصده المظلومون والثكلى

لكنه انهار في القصف الأخير

أمسك قائمة بأسماء المجرمين والقتلة

أرسم لوحة لوجهك الحقيقي لأعطيها للملكين

أبحث كل فجر عن أرواح المغدورين

ومن آن لآخر أكرر النباح وأعوي بجوار كل قتيل جديد

أظن أن الليل قد حل،

يضيع عمره في النظر إليك وأنت نائمة

ويمشي على أطراف أصابعه كي لا يوقظك

لن أحبك كعاشق فرنسي يرص الزهور على سريرك

ولست إيطاليا كي أؤلف أوبرا باسمك

يردد علي مسامعك نشيد القتلة

أصنع لك من الجماجم بيتا

ـ أدخر واحدة لطفل رضيع لأزين بها بابك ـ

كل يوم سأحكي لك حكاية جديدة عن الأرواح التي أزهقها

سأصور لك بالضبط كيف تذلل الرجل كي أدعه يمر بأسرته

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل