المحتوى الرئيسى

صفي الدين الحلي.. المحظور والمحرّم

11/11 02:25

يلوح لي أن صدور «ديوان صفي الدين الحلي» (1278م – 1353 م) اليوم عن «دار الجمل» كاملاً بجزءين من 1368 صفحة، بمثل هذا الجهد وهذا الحجم، هو عمل يحمل تبريره الاهم، من خلال نشر الباب المقصى أو المحرم من ديوان هذا الشاعر، وقصائده الملعونة المنتبذة على امتداد سبعة قرون من الزمان تبدأ من عام وفاته في بغداد في العام (750 للهجرة 1353) للميلاد حتى حدود هذه الايام.

قصائد الباب المقصى، كانت قد نشرت كلها أو بعضها في حياة الشاعر، بطلب من السلطان الحاكم نفسه سواء كان ذلك في مصر أو في ماردين (من بلاد الشام) أو بغداد حيث عاش صفي الدين الحلي وتنقل. فإن من يقرأ «يائيته» على الوزن الخفيف ومطلعها: «غير عينيك من دمائي البريه/وهي خصمي في ذاك دون البريه» يدرك أن أوصاف الفحش والقحب والبغاء التي يسوقها الحلي في الطريق إلى مديح الملك الصالح (شمس الدين صالح الاول بن غازي الارتقي حاكم ماردين)، كانت مكتوبة بطلب الملك ومن أجل أنسه وهي مجازة بالمال والهدايا.

والقصيدة طويلة من 51 بيتاً يصف فيها الشاعر باللفظ المكشوف ليلة قضاها مع بنت هوى، أضاف لها غلاماً فجمع الانثى إلى الذكر في وقت واحد، ووصف الجنس بجميع اللغات المعروفة، وبأوصافه المختلفة، بما في ذلك الجنس القذر: «قلت تعطين من وراء فقالت إن أرادته نفسك الكلبية»، لكن الملاحظ أن في تضاعيف القصيدة، فضلاً عن المشاهد الايروسية المتنوعة، تشابيه للأعضاء الانثوية والذكرية تجمع بين المذاهب المعروفة وهذه الاعضاء.. فهو إذ يصف ردف البغي فيقول إنه: «قدري التدوير معتزلي الحجم لكن أعماقه أشعرية» فهو جمع على ردف صاحبته المذاهب المعروفة في زمنه: القدرية والمعتزلة والاشعرية. وفي ذلك ما فيه من دلالة خطيرة وهي أن السلطة التي كانت تحكم باسم الدين وتتسمى بأسمائه الحسنى كانت مبطنة في الاعماق السفلى للوعي، بنبذ المقدس الديني بل بانتهاكه والعبث به. وأظن أن صفي الدين الحلي هنا تجاوز الكثير مما وصلت إليه الادبيات الغربية الانتهاكية للدين (من مالارميه.. إلى لوتريامون). وهذه القصيدة الانتهاكية بأبياتها وأحوالها، ينتهي بها صاحبها لمديح الدولة الصالحية ومليكها (الملك الصالح)... ما يترك مفارقة في التسميات تدعو للتأمل والسخرية. وأنت تعثر في قصائد الحلي المحرمة على الكثير من مثل هذا الانتهاك للشعائر أو حتى للمقدسات الدينية من قيام للصلاة ووحدانية وقيمومة الاله عز وجل. كل ذلك يربطه الحلي بجناس تجنيسي ساخر وبالتسميات العارية.. «عاتبته إذ نام عن حاجتي فقال لي: سبحان من لا ينام»...

يستنتج محقق ديوان الحلي الشاعر محمد مظلوم، أن عصر الحلي في القرون الوسطى المسمى عصر الظلمات أو عصر الانحطاط (وهو العصر الذي تلا سقوط بغداد على يد المغول (656 هـ / 1258 م) لم يكن بحقيقته يستحق هذه التسمية. ففيه كان مباحاً هذا المقدار من (الحرية) في التعبير ونشره بمعرفة السلطة ورعايتها، ونشر نصوص تنطوي على أقصى الاباحية الجنسية... والدليل أن النصوص المحرمة لصفي الدين الحلي نشرت في أيامه، ثم طويت بعد ذلك لتظهر على حذر في العام 1880 في دمشق بطبعة حبيب أفندي خالد وعلى نفقته.. إذ طبع الباب الحادي عشر المحرم، وفي اَخره بشكل يمكن فصله عنه لمن يرغب، وهو الباب المحظور المسمى «في الملح والاهاجي والاحماض في التناجي» بفصوله المتنوعة في المجون والخمرة والحشيش. ويرى أن تسمية تلك الفترة «بعصر الظلام» جاءت في عصر النهضة وكانت ترحيلاً للمصطلح الاوروبي العصور المظلمة Dark ages ونوعا من المحاكاة العربية الخاطئة له. وكان ينبغي قلب التسمية، تبعاً لما ظهر ومورس من حريات القول والسلوك. من ناحية، ولأنوار ثقافية كبرى ظهرت بعد سقوط بغداد، كابن خلدون وابن عربي وابن منظور، فضلاً عن أن الاشعار الممنوعة من ديوان الحلي، في عصر النهضة بالذات، كانت مباحة ومتضمنة في كتب الفترة المظلمة كـ «مسالك الابصار» و«الوافي بالوفيات» و «فوات الوفيات» و «أعيان العصر» وسواها. هذه المسألة، على الارجح هي التي حملت محمد مظلوم على إهداء تحقيقه المهم لديوان الحلي. إلى «توماس باور» Thomas Bauer و «خالد المعالي» شريكين في إضاءة الالتباس من تاريخ اَخر، واعادة الاعتبار للمحذوف من النصوص» ـ كما يقول ـ وتوماس باور هو صاحب كتاب «ثقافة الالتباس». تاريخ اَخر للإسلام «وهو الذي أشار إلى ما نال أشعار الحلي من الحذف، وإلى أن الطبعة الدمشقية، هي وحدها التي أثبتت فصل «الاحماض والمجون».. وكان ذلك جزءًا من جهد استشراقي تلا عصر النهضة وانصب على كشف الكثير من المستور والمقصى والمحرم من النصوص القديمة». سيكون من اللازم أيضا في ما يتعلق ببعض القصائد المقصاة الإشارة إلى كتاب الباحث بوزوروث المسمى «العالم السفلي الاسلامي في العصور الوسطى وبنو ساسان في المجتمع العربي والادب» ( 1976).

والحقيقة أنه لا بد من التنويه بهذا الجلد الذي تمتع به المحقق في عمله القيم وتقصيه العلمي الدقيق، وصولا إلى ما سماه «النصوص الصحيحة الكاملة لصفي الدين الحلي». إننا بالفعل أمام طاحونة كلام لا تهدأ... أقلها جميل وأكثرها صنعة وتكلفا ومهارات لغوية حرفية مضحكة بل تافهة...

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل