المحتوى الرئيسى

«المحاسب».. فى مدح العقل والاختلاف والعائلة!

11/10 22:01

على الرغم من كثرة تفصيلات هذا الفيلم، وعلى الرغم من كثرة خطوطه وشخصياته، وعلى الرغم من ألعاب مؤلفه «بيل دوبوك» فى إخفاء أسراره، وبراعة مخرجه «جيفين أوكونور» فى استعراض مهاراته الحرفية سواء فى مجال الحركة أو الإثارة والتشويق، فإن معنى الحكاية يبدو لى هو الأكثر ذكاء وبريقا من تفصيلاتها؛ لأنها تصب من جديد فى نهر القيم الأساسية التى دافعت وتدافع عنها الكثير من أفلام هوليوود، مهما اختلفت الحواديت والأشكال والأنواع.

فيلم «the accountant» أو «المحاسب»، الذى قام ببطولته بن أفليك، يشغلنا طوال الوقت بخطوط متداخلة عن شاب عبقرى يتغلب على إصابته بمرض التوحد، ويصبح محاسبا استثنائيا، يجند عقله ومهارته فى التعامل مع مؤسسات إجرامية ضخمة تقوم بمخالفات مالية صارخة، ولكنه يظل أكثر ذكاء منها، بل ويمتلك القدرة الغاشمة لكى يحمى من يحب، ويقتل انتقاما بصورة أقرب إلى المذبحة، إننا فى هذا المستوى العام جدا نتحدث عن عالم الفساد الخفى بكل مكوناته: مافيا التهرب الضريبى، والأنشطة الوهمية، وغسيل الأموال.. إلخ.

ولكن هذه التفاصيل المتداخلة التى تصيب المتفرج بالدوار، وتلك الأسرار المتتالية التى نجح السيناريو فى أن يجعلنا نكتشفها بالتدريج حتى المشهد الأخير، ليست هى الفيلم، وإنما الفيلم معناه فى شخصية كريستيان وولف التى لعبها أفليك، فى أسرته وحياته، فى مرضه الذى تغلب عليه، وفى تمسكه بتعاليم والده، رجل الجيش المقاتل، الذى رفض أن يترك ابنه كريستيان فى معهد لرعاية وتدريب مرضى التوحد، والذى أعد ابنه بصرامة لكى يواجه الحياة بطريقة فريدة تجمع بين العقل والقوة، وتجمع بين الفردية والانتماء للأسرة، هذا هو المستوى الأعمق فى الحكاية.

لعبة فيلم «المحاسب» مزدوجة، وتتم طوال الوقت عبر طريقين متضافرين، وهذا هو سبب كثافة الفيلم الذكى: طريق لعبة الأرقام والحسابات، وطريق لعبة اختيارات الحياة، ومفتاح الفيلم الحقيقى ليس فى مطاردة «كينج»، هو رئيس وحدة مكافحة الجريمة المالية فى وزارة الخزانة الأمريكية، ومساعدته السمراء «مدينا»، لشخص يطلقون عليه اسم «المحاسب»، قام بتصفية أفراد عصابة شهيرة، ولا هى فى مطاردة كريستيان/المحاسب بدوره لأولئك الذين ارتكبوا جرائم قتل، بعد أن اكتشف كريستيان اختلاس مبلغ 61 مليون دولار فى شركة ضخمة تعمل فى مجال الأطراف الصناعية، ولكن المفتاح فى عبارات يقولها الأب الصارم، رجل الجيش، لابنه الصغير كريستيان، إنه يدفعه، هو وشقيقه براكستون، للانتقام من عدد من الصبية، قاموا بضرب كريستيان، وتحطيم نظارته، لمجرد أنه طفل متوحد مختلف.

يقول الأب لكريستيان الصغير إنه عليه أن يختار: إما أن يدافع عن نفسه، وإما أن يكون ضحية، ويؤكد لابنه أن اختيار دور الضحية، لن يمنع الصبية من ضربه؛ لأن الناس تخاف باستمرار من الشخص المختلف، ويوصى الأب ابنه كريستيان بأن يكون ولاؤه لأسرته، ثم يدير الأب معركة ابنيه كريستيان وبراكستون لتأديب الصبية، بعد أن أشرف من قبل على برنامج عنيف لابنيه فى تدريبات للدفاع عن النفس.

وسيكون هذا المشهد المحورى، الذى لا نراه إلا فى الثلث الأخير فى الفيلم، نقطة تحول فى حياة كريستيان، وسيحدد اختياراته فى المستقبل، أى أنه سيفسر لنا كل سلوكيات كريستيان، التى تبدو متناقضة، وغير مفهومة فى البداية.

بدون أن تنتبه إلى هذا المشهد، لن تفهم الفيلم الذى يشغلك طوال الوقت بمستوى المطاردة والحركة والبحث عن الأشخاص وراء الجرائم، بينما هو يمدح قيم الأب (ليس مصادفة بالطبع أن يكون مقاتلا وعسكريا محترفا)، والتى هى فى الواقع مجموعة قيم تمجدها هوليوود بطرق مختلفة، وأعنى بذلك الإعلاء من شأن الفردية، والاختلاف، والإيمان بالعقل والقدرات الخاصة، ورفض دور الضحية المستسلمة، ورفض الضعف والمرض، وضرورة اقتران العقل والذكاء النظرى بقوة مكتسحة تحميه، وتدافع عنه، والأهم من كل ذلك، دور الأسرة، وأهمية الولاء لها، لأنها وطنك الأول.

هذه الأفكار يخدمها الإطار البوليسى والمثير والحركى الذى يبدو مجرد شكل فقط، والسيناريو يتعمد أن يخفى مبررات كريستيان فى المشاهد الأولى، كما يتعمد أن نكون أمام مطاردتين متداخلتين: مطاردة مسئولى وزارة الخزانة، وهم هنا عين المجتمع الساهرة، لأصحاب شركات مخالفة، ولعمليات غسيل أموال، ولرجل لا يعرفون سوى لقبه وهو «المحاسب»، ولا يمتلكون سوى تسجيل نادر بصوته، ومطاردة كريستيان المحاسب لمن قتلوا أصحاب شركة ضخمة كلف بالكشف عن مخالفات حساباتها المالية، ثم حاولوا أيضا قتل دانا المحاسبة الشابة التى تعلق بها.

ولكن ما يفسر كل هذه الحكاية هو إيمان كريستيان باختلافه، وثقته بنفسه وبقدراته، التى زرعها فيه الأب، ورفضه فى كل الأحوال لفكرة التوحد، ورغبته فى أن يكون فى قلب الحياة، بل فى داخل صراع مشتعل أقرب إلى عالم المافيا، وسيكون ولاء كريستيان فى النهاية لشقيقه براكستون، كما أن انتقام كريستيان لرفيق السجن العجوز من العصابة التى قتلته، أقرب ما يكون إلى انتقامه لأب بديل، فالرجل العجوز محاسب قديم تخلصت منه الشركة المخالفة بالقتل، وهو يعلم كريستيان بنفس الطريقة تقريبا التى علمه بها والده، وسيصبح كريستيان بعد ذلك محاسبا مثل المحاسب العجوز، ويقوم تقريبا بنفس مهامه مع الشركات المخالفة.

نحن إذن أمام فيلم عن «حساب» اختياراتك فى الحياة، مع أنه يتحدث طوال الوقت أنه فيلم عن محاسبة الأرقام والميزانيات، وعن «حساب» من ارتكبوا مخالفات التزوير أو الإختلاس أو القتل. إنه فيلم عن قدرة الفرد على أن يتجاوز توحده، ويكتشف اختلافه، ويتواصل مع الآخر، يتضح ذلك بالدرجة الأولى فى بطلنا كريستيان، ولكنك ستجد تنويعات للفكرة فى شخصيات الفيلم الأخرى، وكلها تختار بطريقة فردية، وكلها رسمت بشكل يؤكد أنها مختلفة جدا، وليست مجرد أنماط، سواء فى شخصية مثل والد كريستيان، أو كينج مدير مكافحة الجرائم المالية فى وزارة الخزانة، أو براكستون شقيق المحاسب، أو «مدينا» بماضيها وحاضرها، أو «دانا» المحاسبة التى كشفت المخالفات، أو صاحبة «الصوت» المختلف، الذى يواكب كريستيان فى مغامرته الطويل.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل