المحتوى الرئيسى

هىَ لا تَرقُص ولا تُصلِّى | المصري اليوم

11/10 05:48

خضراء على ورقة خضراء فى غصن أخضر، تكاد فى تماهيها لا يميزها بصر العابر العَجول، لكن الأطفال يلمحونها بعيونهم الصافية الفضولية، وهم لا يعبثون بها ذلك العبث الطفولى العنيف بتلك الكائنات الصغيرة، بل يولونها تبجيلا ولا يحاولون صيدها، وإن فعلوا فبحذر وحنان بالغين، ينقلونها بدفع لطيف من موضعها إلى غصن أخضر صغير قطعوه من الغصن الكبير الذى رأوها تقف عليه، ويتنقلون بهذا الغصن الذى تجلس على عرشه بين أقرانهم، ثم يجلسون فى حلقة واسعة يوضع فى مركزها الغصن وهى فى بؤرة المشهد ليتبادلوا الانبهار بصلاتها، فهى تضم قوادمها أمامها وتنحنى بجذعها ورأسها المُطرِق، ثم تعتدل وتعود تنحنى وتُطأطئ، بهيئة تتماهى مع أشكال عديدة من صلوات المؤمنين فى ديانات مختلفة، فيسميها البعض «جمل اليهود» ونسميها نحن «فرسة النبى»، ونُنشد لها فى طفولتنا «إذا كنتى بتحبى النبى صلى» ونحسب أنها تصلى إذا تطيع، بل يطيع إيقاعها المتواتر انحناء واعتدالاً لأمرٍ لن نعيه حتى نكبر ونعرف سرها، وهناك من يكبرون ولا يعرفون هذا السر، وإن عرفوه لا يستسلمون لتصديقه، كى تظل أسطورتها ماثلة فى وجدانهم المُبتهِل، أو المُهتبل!.

اختصارا تسميها كتب علم الحيوان عمدا أو تيسيرا، أو فضا للتنازع على بركتها: «السرعوف المُتعبِّد»، PRAYING MANTIS، لكن هذه الكتب بما أنها كتب علم، لا تستطيع أن تخفى حقيقة صلوات تعبُّدها، فهى من أشرس الحشرات المفترسة، وأسرعها فى الانقضاض على فرائسها التى كثيرا ما تكون أكبر منها حجما، كجرادة كبيرة أو حتى ضفدع صغير، ولتحقيق سرعة الانقضاض على فريستها وعدم إفلاتها من الهجمة الأولى تظل دائما فى وضع التأهب مادة قوادمها المُسننة أمامها، تُؤرجِح جذعها هبوطا وارتفاعا دون توقف، لتكون فى اللحظة المناسبة على مسافة مناسبة، وتنقض. وهى من أشد الكائنات قسوة فى التهام فرائسها، لأنها تأكلهم أحياء يتلوون ويتقلصون، بين يديها كُلابتا الأشواك اللتان لا تفلتهم، كأنها تتلذذ بأكلهم كاملى الطزاجة، أو أنها لا تُحب أن تُضيِّع وقتا فى قتلهم الرحيم قبل التهامهم بفكيها المُسنَّنين كمنشار آلى سريع!

خذلان مرعب سيعانيه كل من ظن بها تقوى فى صغره أو حتى كِبَرِه، وهى لن تعبأ بذلك لأنها لا تدرى ما يُظن بها، فهى مُصمَّمة لتحيا على هذه الشاكلة لأسباب يعرفها المصمم الأعظم، فهى تأكل لتعيش ولم ترث طريقة أخرى غير تلك التى تأكل بها، وتحب، ويالهول حبها! فهى تُقدِّم للحبيب رقصة إغراء لا تماثلها رقصة إلا رقصات باليرينات الباليه عند البشر، بل أبهى وأزهى تلوينا، فهى تنتصب على ساقيها الطويلتين الرشيقتين وترفع ذراعيها فينهمر من تحتهما شلال من الألوان الشفافة، أحمر وأخضر وأصفر وبنفسجى خفيف، فى تناوب بديع يصنعه انفتاح مروحة أجنحتها الغشائية تحت الذراعين المرفوعتين فى الرقصة الخلابة. ليست رقصة باليه بديع فقط، بل هى ممزوجة برقصة جارية مثيرة ترفل فى غِلالات شفيفة ملونة، مُقدِّمة نفسها لسلطان يشاهدها فى أمسية لهو وقصف بقاعة المُلك. لكن سلطانها فى الحقيقة غريبٌ شأنه، فهو يقترب منها مُتساحبا، خافضا جسمه على مبعدة من الغصن الذى ترقص عليه، يخطو ربع خطوة ويتوقف، ويخطو، ويتوقف، ومع أقصى اقتراب يطيل وقوفه، ثم فجأة يقفز على ظهرها، فيتضح أنه أضأل منها بكثير، وأغبر لونا. يبدو وكأنه عبدٌ أغوته سلطانة فهو يُباشِرها وَجِلا مرتعبًا. فإلى أين المصير؟

كأن ذكر السرعوف يعرف، أو أنه يعرف، لابد يعرف، ذاكرة جينات أسلافه تخبره بما كان وما سيكون، فهو يدخل فى أغرب وأخطر «لحظة حب» يمكن أن يعيشها كائن، ينتشى بالوصل بنصف تركيزه، ونصف تركيزه الآخر منتبه إلى رأسه حتى لا تنخطف منه فى برهة سهو، برهة يستدير إليه فيها رأس المحبوبة وبسرعة البرق تنقض، تقضم رأسه وتخلعه من جسمه الذى يظل مستمرًّا فى اتصاله بها، ترتشف منه آخر ما فى جعبته من أمشاج مذكرة تخصب بيضها، فيما تكون قد أكملت التهام الرأس، وقد تستدير لتلتهم ما يصلح من جسم الحبيب الذى أعطى مقطوع الرأس آخر ماعنده، وقد تكون مكتفية بوجبة رأسه تاركة جسمه ينفصل عنها بعد اكتمال عطائه، يسقط من عليائه كما تسقط ورقة شجر ذابلة من غصنها العالى إلى انحطاط الأرض، قشةَ ذكرٍ أغوته رقصة حب أنثوية لا تُقاوَم، تنضم إلى قش أوراق الشجر الذابلة فى عالم الحدائق، والحقول، والغابات، والمروج. فما أعجب هذه البشاعة، فى فيض هذا الجمال!

لكن، هناك ما يُراجعنا فى وصم الأمر بالبشاعة، فالأنثى كما الذكر فى نظر العِلم مجرد كائن من طائفة الحشرات الغشائية المسماة بالسراعف، ليست جملًا لليهود، ولا فرسًا لنبى المسلمين، ولا متعبدة من أى ملة بشرية، وإن كان لها تسبيحها الذى لا ندريه، فيها تصميم عبقرى شديد التعقيد لكائن صغير يتسق مع متطلبات أدواره فى الحياة لا أكثر، وأهم هذه الأدوار لدى كل كائن حى أن يترك ذرية، وبمصطلح علوم الوراثة الحديثة «ينشر جيناته»، وبمصطلح آخر لعلماء الأحياء التطورية «يدخل فى شركة جينية مُساهِمة»، لإنتاج ذرية مشتركة الجينات من الذكر والأنثى، ومعلوم أن الذكر واقعيا، وفى معظم الكائنات، بما فيها البشر، يشارك فى هذه «الجمعية الجينية» الثنائية، بنصيب أقل كثيرا من نصيب الأنثى، فهو يقدم أمشاجاً ذكرية مهما كانت بالآلاف أو الملايين، تظل مجتمعةً أضأل حجما وأقل كلفة حيوية مما تقدمه الأنثى، سواء كان بيضة واحدة أو عددا من البيض أو بويضة، ومن ثم يحق للأنثى فى هذه «الشركة» تعويضات أكبر مما يناله الذكر الذى ينتهى دوره بانتهاء لحظة التزاوج. أما ما يبدو لنا وحشيا فى سلوك الأنثى ومأساويا فى مصير الذكر، فالتفسير المتاح علميا يقول بأن الأنثى تكون مُفتقِرة بشدة إلى البروتينات نتيجة سَحْب البيض المتكون داخلها لكثير من بروتينات جسمها، فتصير فى حاجة ماسة لدعم بروتينى لإكمال مسيرة حمل البيض وتنميته داخلها ثم وضعه وحراسته ورعاية ما يخرج منه بعد الفقس، وهى فى هذا كله لا تستطيع تناوُل ما يسد رمقها، فتكون رأس الذكر قُربانا لنجاح رعاية عياله من بعده، هو الذى لن يقدم لهم أى شىء بعد لحظة الحب. وقد يستبشِع المُراقِب البشرى صنيع الأنثى ويأسى لمصير الذكر، لكن هناك ما يمحو ذلك الاستبشاع وذاك الأسى، ففى لحظات ممارسة الحب ينطلق قدْرٌ هائل من الإندورفينات أو أفيونات الجسم الطبيعية، وهى مواد كيميائية فائقة التسكين ومُنعشة ومُحلِّقة بالنشوة، كما الأفيون وإن بدون عواقبه التدميرية، والسرعوف الذى يكون فى نشوة الحب الهائلة هذه يكاد لا يُحس بقضم رأسه، حتى إن جسده مقطوع الرأس يواصل فعل التزاوج حتى الثُمالة!.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل