المحتوى الرئيسى

العلاج المؤكد للشيخوخة

11/09 08:20

الشهر الماضي ذهبت مع أستاذي لحضور ورشة مسرحية، وبعدها محاضرة لهيراتا أوريزا، وهو أحد المسرحيين اليابانيين المرموقين، وتربطني به علاقة طيبة بسبب العمل، الورشة والمحاضرة كانتا تدوران حول العلاج بالدراما لكبار السن، الذين يعانون من مشكلة الفقدان المؤقت للذاكرة.

ومشكلة كبار السن هي إحدى أهم المشكلات التي تؤرق المجتمع الياباني الذي يبلغ متوسط إعماره ٤٧.٥، وهو بالمناسبة ليس الأعلى في العالم، فإمارة موناكو تظل الأعلى، وألمانيا تقترب من اليابان في متوسط الإعمار، ولكن اليابان تحوي أكبر نسبة معمرين في العالم، فعدد من تجاوز المائة من اليابانيين يصل إلى نحو أربعين ألف شخص، وبسبب التركيبة المتجانسة للسكان، فإن الهجرة إليها ليست شائعة مثل ألمانيا، ورغم تأثير ذلك الأمر على الاقتصاد الياباني المنهك أصلاً من حيث ندرة الأيدي العاملة الشابة، وارتفاع تكلفة الرعاية الاجتماعية لكبار السن، لكن ترفض الحكومات اليابانية المتعاقبة التخلي عن مسؤولية الرعاية الاجتماعية لكبار السن، بل إنها تؤسس لهم يوماً بعد يوم مزيداً من البرامج التي تعمل على حل المشكلات والأخطار التي قد يواجهونها، ولجعل حياتهم أيسر وأمتع، ومنها هذه الورشة المسرحية التي حضرتها، فهي جزء من برنامج حكومي شامل، أي مدعم بالكامل من الحكومة اليابانية يهدف إلى منع الأضرار التي قد تترتب على فقدان الذاكرة المؤقت، أو تكرار النسيان الذي يصيب تلك الأعمار المتقدمة، ويعمل البرنامج في اتجاهين متوازيين: الأول تدريب كبار السن أنفسهم على تعزيز قوة الذاكرة عن طريق الدراما وتدريبات الممثل لتقوية الذاكرة، وتأهيل المحيطين بهم، سواء العاملون في أماكن الرعاية الاجتماعية أو الأقارب على كيفية التعامل معهم عندما تنتابهم حالة الفقدان المؤقت للذاكرة، مثال على ذلك، وهو الأمر الذي يبدو شائعاً في اليابان: نسيان كبار السن لحافظة نقودهم، الذي قد يذهب إلى حد توجيههم الاتهام لمن حولهم بسرقتها، وما يتبع ذلك من مشكلات، وكانت الورشة تركز على تمرينات خاصة بكبار السن، وأيضاً كيفية التعامل معهم في هذه الحالة من قِبل المحيطين بهم، عبر أداء دور تمثيلي معين، والاستجابة لهم، والتجاوب معهم، كالإسراع بالتظاهر بالبحث عن الشيء المفقود، مما يساعد على طمأنتهم.

وأنا هنا أضرب مثلاً بالاهتمام بكبار السن، أولئك الذين يظن البعض في بلادنا أن كل ما عليهم أن يقبعوا في كراسيهم منتظرين الموت، ولَك أن تتخيل الرعاية التي تقدم للأطفال خاصة، وللمواطن الياباني عامة.

بعد انتهاء المحاضرة سألني أستاذي وهيراتا عن وضع المسنين في بلادي، فضحكت وقلت لهم: نحن لا نعاني من مثل هذه المشكلة؛ لأن النظام الحاكم لدينا ابتكر طريقة فريدة لمعالجة هذا الأمر كلياً، وتتلخص في كلمة واحدة "التلوث"، فالهواء ملوث، وكذلك الغذاء والماء والعلاقات الإنسانية والحياة السياسية والروابط الاجتماعية، وهكذا يموت الناس في بلادي في أعمار مبكرة؛ إما بالسرطان أو الكبد الوبائي، وغيرها من الأمراض، وإذا أفلت من براثن المرض فإن رصاص الأمن أو حادثة سيارة أو مشاجرة مع جارٍ على ماء الغسيل الذي ينقط من البلكونة تترصده لتذهب به إلى مثواه الأخير، وهناك أسباب أخرى كثيرة، وهكذا أنهينا كلياً تلك المشكلة من جذورها.

اليوم أودّ أن أضيف لأستاذي أن المواطن الذي يملك حلماً لوطنه في بلادي، ويحاول أن يدافع عنه يصل إلى سن العشرين بالكاد بعد أن يتعرض للاعتقال ثلاث مرات، ويصاب بالسرطان داخل المعتقل، ويمنع عنه العلاج، فتتدهور حالته، وحين يفرج عنه يضطر إلى السفر إلى أميركا هرباً من الملاحقة الأمنية بالدرجة الأولى ولطلب العلاج ثانياً، وهناك يموت غريباً، ويدفن في أرض لم يعرف منها إلا جدراناً بيضاء وسريراً حديدياً محاطاً بالأسلاك، وإذا صادف هذا المواطن حظاً طيباً وتفوق والتحق بكلية الطب وتخرج فيها، وسعى إلى خدمة وطنه وأهله باذلاً من نفسه وماله لهذا الغرض تتم ملاحقته أمنياً فيهرب، ويظل مختبئاً، فيتم قتله بدم بارد، ووضع سلاح إلى جواره واتهامه بأنه كان يقود تنظيماً إرهابياً، الدكتور الذي لم يستخدم في حياته إلا سماعته الطبية لمعالجة المرضى، ومداواة آلامهم يحمل كلاشينكوف ليقتلهم، والحقيقة أن كل هذا قد يحدث، ويمكن تصديقه من نظام يقوده شخص يصر على نطق الصاد سيناً، لكن الذي لا يمكن احتماله أو تصديقه أن هناك بعض الحمقى ما زالوا مصرين على تصديق أن هذا الشخص ونظامه يمكن أن ينقل "مسر" نقلة حضارية.

لا تبكوا مهند أو محمد كمال، ولكن ابكوا أنفسكم ووطناً لم يعد يصلح للاستهلاك الآدمي، ابكوا أطفالاً لن يملكوا مستقبلاً؛ لأنكم فشلتم في امتلاك حاضركم.

هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى

فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!

وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى..

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل