المحتوى الرئيسى

رفقاً بالملحدين

11/08 14:48

"فرصة لن تعوَّض.. فرصة قد لا نجد مثلها خلال القرن القادم بأكمله".. تذكر جيداً هذه العبارة عندما تصل لنهاية المقال.

كلمة الإلحاد جاءت من الفعل ألحد، وألحد الشخص، أي: مال عن طريق القصد (المعجم الوسيط)، ويستخدم هذا الفعل بمفهومه العام الواسع كوصف لمن يرفض الاعتقاد أو الإيمان بوجود آلهة، كما يستخدم على نطاق أضيق لوصف موقف البعض من عدم وجود آلهة.

وقد تبلور مصطلح الإلحاد في أعقاب انتشار ما يسمى "الفكر الحر" و"الشكوكية العلمية"، وزيادة أعداد التيارات الفكرية التي تنتقد الأديان.

هؤلاء الملحدون الأوائل وصفوا أنفسهم بكلمة "ملحد" خلال فترة عصر التنوير في القرن الثامن عشر.

عصر التنوير جاء كرد فعل على تسلط قوة بشكل قهري على العقل، ليست قوة الدين كما يصور لنا البعض، ولكن قوة رجال الدين.. وهنا تبدأ الحكاية.

سار غالبية المسلمين في السنوات الأخيرة، وخصوصاً الشباب، تحت أغلال قيود فكرية باسم العلمانية أو الاشتراكية أو اليسارية أو الدين، وهذه الفئة الأخيرة كانت هي الأهم والأخطر.

مع قيام ثورات الربيع العربي، بدأ الشباب يفهم أن هناك شيئاً آخر، أن هناك شيئاً ما حوله رائعاً ومذهلاً، لكنه غامض وباهت إلى أبعد الحدود، حتى عندما تنفس حريته السياسية لأول مرة مزيلاً الديكتاتوريات، ومعبراً عن رأيه، كان لا يزال يشعر بأن هناك شيئاً ما لا يزال يحوم حوله.

مع بداية ثورات الربيع العربي، بدأت تسقط الكثير من الأقنعة عن الوجوه، وبدأ الشباب يتعرض لصدمة تلو الأخرى في أشخاص كان يعتقدهم الحق المطلق.

ووسط هذه الصدمات بدأت الأصنام تسقط وتتهاوى بكل قوة، حتى إذا بدأت الثورات المضادة تقوى وتتبلور بشدة، زادت حدة الصدمات وكثرت؛ ليزداد هذا الشيء غموضاً، لكنه يزداد قرباً أيضاً.

الصدمة الأبرز كانت من نصيب المنتمين لمختلف الجماعات الإسلامية، في البداية ظهرت خلافات فكرية بين جيل الشباب والقيادات، عندما نزلت هذه الجماعات لساحة السياسة، نرشح رئيساً منا أم لا نرشح، نقول نعم أم لا... إلخ، لكن الفجوة بين الفريقين بدأت تتسع تدريجياً حتى بلغت مداها، ثم انفجرت الصدمات بعدما فشلت هذه الجماعات فشلاً ذريعاً وتسببت -بشكل أو بآخر- في وقوع المجازر والاعتقالات وتدمير الحياة السياسية في البلاد.

الصدمة هنا جاءت نتيجة وعود -أقرب إلى النبوءات- التي لم تتحقق، قال لهم القادة إنهم لا يعدونهم بالنصر، لكن الله هو الذي وعدهم، إذا فعلتم كذا وكذا فسينزل النصر عليكم من السماء خلال أيام. فعل الشباب كذا وكذا فلم يأتِ النصر، فقالوا لقادتهم لماذا لا نغير الفعل عسى يأتي النصر؟ فكان الرد: "لسنا نحن من يقول لكنه الله".

الفشل الذريع الذي مُني به هؤلاء، وما صاحبه من رعب ودماء، كشف الستار أخيراً عن هذا الشيء الغامض: لماذا لم يأتنا النصر؟ أين الخطأ؟

بدأ البعض يفكر، ماذا لو رفعت عقلي فوق مستوى دينكم، هل أكون مخطئاً، "الخطيئة شيء بسيط، بل إنه إلحاد"، فليكن هو الإلحاد إذن.

قال إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني وأحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية وأحد أبرز المؤثرين خلال حقبة عصر التنوير الأوروبية: "أعملوا عقولكم أيها البشر، لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم، فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب".

عندما هُزم النبي محمد وصحابته في أُحد، لماذا لم يشكك بعضهم في الدين؟ لماذا لم يقولوا نحن مسلمون وقد جاهدنا فلا بد للنصر أن يهبط علينا من السماء؟.. ببساطة لأن نبيهم لم يعدهم نصراً "إلهياً"، لكنه وعدهم نصراً بأيديهم هم وعقولهم هم، فإن تفوقتم انتصرتم، وإن تغابيتم انهزمتم.

اتضح الآن ما كان بالأمس غامضاً، عقلي، وعقلي أنا.

في عصر التنوير، حررت أوروبا عقلها من قبضة مجموعة محدودة من الرجال تتحدث باسم الإله، فجاءها النصر في الدنيا يهرول. مشكلتهم الوحيدة كانت أن البعض ممن جاء لاحقاً حمَّل الدين كله مسؤولية الجهل والظلام، بدلاً من تحميل المسؤولية لهؤلاء الرجال. فلو عدنا على كانط على سبيل المثال، لوجدناه يقول: "حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان"، فهو لم ينكر الإيمان، لكنه حذر من الطاعة العمياء للقادة ورجال الدين.

الشباب ألحد في البداية بهؤلاء القادة السياسيين وبهؤلاء النخب بعدما اكتشفوا أن طريق هؤلاء لا يقود إلى القصد المراد، بل هو طريق ينتهي بأهواء هؤلاء وغاياتهم، ثم جاءت الطامة عندما ألحدوا برجال الدين.

يا ترى ماذا قال رجال الكنيسة عن "الملحدين الأوائل"؟ بالطبع كفَّروهم، فهم زنادقة لا يفهمون وليس عندهم من العلم ما يجعلهم يشككون فيما يقوله رجال الكنيسة من أوامر ونواهٍ.

ألم تسمع عن هؤلاء الشباب الذين خرجوا من مصر بعد مذبحة رابعة وانضموا لداعش؟ نعم هؤلاء الإرهابيون المجرمون الذين فهموا الدين خطأ.

ألم تسمع عن هذه الفتاة التي تركت الإخوان وخلعت حجابها وتحررت بالكامل؟ نعم هذه الفاجرة التي لم تعلم أن هذه الهزيمة مجرد اختبار من عند الله، ففشلت في الاختبار.

ألم تسمع عن هذا الشاب الذي يقول إن الإعجاز العلمي في القرآن مهزلة، والذي ينكر حكم الردة وحكم الرجم ويطالب بإزالة أحاديث الآحاد؟ نعم هذا المخرج الجاهل الذي لا يملك أي علم ديني حتى يخوض في مثل هذه الأمور، عليه أن يترك الدين لرجال الدين وأن يتفرغ هو للإخراج.

انقسم الشباب بعد هذه الصدمات إلى ٣ فئات رئيسية: الأولى ازدادت انغلاقاً على نفسها باتجاه الوسيلة المباشرة للحصول على النصر. والثانية أراحت عقلها، فآمنت أن الحل في النقيض.

أما المجموعة الثالثة فهي التي ألحدت.. ألحدت بالرجال وليس بالفكرة، هي لا تزال مؤمنة، لا تزال تعتقد بقوة دينها، لكنها كفرت بكل ما يقوله رجال الدين الحاليون، "أنتم تأخذون من الدين ما يناسب هواكم.. فلماذا لا تتركونا نحن نختار ما نأخذه". عدد ليس بالقليل من الشباب تغيرت رؤيتهم تماماً لخطبة صلاة الجمعة، لم تعد الخطبة عبارة عن الموعظة الأسبوعية التي كانوا يقبلون عليها ببعض أو بكثير من الشغف لتجديد أرواحهم، بل تحولت الخطبة إلى أمر روتيني يحتوي على الكثير من التشكيك فيما يقال، ليس تشكيكاً في أصول الدين بالطبع، ولكن تشكيكاً في هذا الفهم الذي يقوله الخطيب للدين، فما الذي يجعلني أثق مرة أخرى في رجال وعدوني بأشياء ولم تحدث؟

الرائع في الأمر أن الشباب الذي بدأ يبحث عن الحق والحقيقة لم يأتِ بشيء جديد، لم يخترع فكراً جديداً، فهؤلاء لا يملكون الأدوات المناسبة نتيجة محدودية خوضهم في علوم الدين. لكن بعضهم استطاع أن يصل بعقله إلى بعض مما ذكرته بعض كتب الفقه القديمة وبعض المدارس الفقهية المنسية، أو لنقُل التي جرى إخفاؤها عمداً لصالح بعض التوجهات الفكرية أو السياسية.

بعضهم شكك في أحكام يعتقد البعض أنها حكم قطعي الثبوت بلا جدال، وذهب البعض أبعد من ذلك للتشكيك في المنهجية التي بنيت عليها آراء الفقهاء قديماً.

قد تقول إن هؤلاء الشباب لا يعلمون أبسط قواعد الفقه والعلوم الدينية، فكيف لنا أن نأخذ ما يقولونه؟ في هذه الحالة اسمح لي أن أتهمك أنت بالغباء.. هؤلاء أفضل ممن انضم لداعش.. أفضل ممن ألحدت حرفياً وشككت في وجود إله من الأساس.. أفضل ممن لا يزال يرى أن رجال الدين الذين ضيعوا العباد والبلاد هم بمثابة الآلهة، حتى خلقوا بيننا كهنوتاً لم ينزل الله به من سلطان.. وبالطبع أفضل من هؤلاء العلماء أو رجال الدين الذين لم يفكروا مطلقاً في مراجعة أفكارهم ومنهجية تفكيرهم وتفقههم في الدين.

لماذا؟.. لأنهم حاولوا إيجاد حل للمعضلة التي صنعها رجال الدين، وهم لا يدعون أنهم جاءوا بالحل.. لكنهم كمن ألقى حجراً في بِركة راكدة كي يحاول من يدَّعون أنهم يملكون العلم أن يروا أبعد قليلاً من تحت أقدامهم. رجال الدين لا يعلمون أن هناك مشكلة حقيقية تتعلق بالشباب، الشباب المنتحر والشباب الملحد والشباب اليائس.

يقول المفكر الإسلامي محمد عمارة: "مثل العقل كالبصر السليم من الآفات، ومثل القرآن كالشمس منتشرة الضياء، فالمُعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، كالمتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور".

الشباب فتح عيونه وصمم على ألا تبقى أجفانه مغلقة، ولم يتبقَّ له سوى أن يرى الشمس كاملة الضياء، فهو الآن يراها في حالة كسوف. هو يعلم يقيناً أنها موجودة، لكنه يريدها أن تنكشف بالكامل، ولن تنكشف إلا بعلماء يجددون في الدين، ويمنحون الشباب إجابات عن أسئلة لم يستطع فقه رجال الدين التقليديين الإجابة عنها بشكل يلائم التطور العقلي الذي شهده شباب ما بعد الربيع العربي.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل