المحتوى الرئيسى

عن الشهيد محسن فكري وأشياء أخرى مطحونة

11/07 14:39

"كل شيء تقريباً، ما رأيته، ما خبرته ما سمعته، ما كتبت ضده، ما أدمى قلبك، ما استغربت بشدة أن يصرف الناس نهارهم في اجتراره، ما راعك، ما ولد بداخلك أحاسيس الاختناق، ما دفعك للتفكير في هروب مستحيل، كل ذلك يتبدى لك مظاهر لتاريخ أجوف، آسن يمارس عوداً أبدياً مقيتاً، هنا في مدينة النحاس يمكنك أن تستحم في مياه النهر مرتين؛ لأن مياهه لا تجري، لا تجري..".

بهذه الجمل أنهى الروائي المغربي عبد الكريم جويطي قصته القصيرة "مدن النحاس" 1، ومعانيها تطفو على سطح مياهنا الآسنة، مجدداً، فنستعيد أحاسيس عدم الانتماء، والظلم والاحتقار الممأسس، فـ"ذوو السلطة" لا يتعلمون من أخطائهم، فإذا كانت قابلة للاحتواء فلا تثريب عليهم، وإن لا تتساقط بضعة رؤوس ليحافظ طوال القامات على انتصابهم.

قُتل فينا يوم السبت الشهيد محسن فكري بعدما "طحنوا مو"، قُتل ببشاعة ذكرتنا بمدى كرهنا الانتماء لوطن يتفنن "خُدامه" في إذلالنا. هذا الوطن الذي لا تحتاج فيه إلا زيارة قصيرة لمصلحة عمومية أو قسم شرطة أو محكمة أو إدارة لتقف على بؤسه.

"كلنا ساخطين.. هير طحنونا كاملين"، كان هذا من بين الشعارات التي أصمت المنطقة المحيطة بالبرلمان المغربي في العاصمة الرباط، فمأتم كهذا الذي نعيشه هذه الأيام يذكرنا بقيمة نسيناها أو تناسيناها، فتحلّق المتظاهرين كان لتعزية بعضهم البعض فيما يجمعهم كمغاربة، وهل يجمعنا شيء أكثر من إجماعنا على احتقار ممثلي الوطن لنا؟

لم يقتصر بؤس هذا الوطن على قوى اعتاد المواطن ملاقاة الأذية منها بمناسبة أو من دونها، بل انتقلت عدواه إلى قوى صيرت نفسها محركاً لضمائر الناس، فأضحت ترى في مآسي الناس فتنة ملعوناً موقظُها، وتهديداً لإصلاح متوهم في ظل استقرار مختل الكفة، دون أن تنتبه إلى أن موقظي الفتنة هم الظالمون بجورهم واحتقارهم وصعلكتهم، لا المظلومون المنتفضون المتحررون من قيود العادة والعبودية واللحظية.

وجددت قوى "بئيسة" أخرى، يميناً وشمالاً، ترحيبها بقومة أو ثورة الشعب المظلوم، ففيها تصديق لاختياراتهم السياسية ومواقفهم من الوطن والعالم، دون أن يفطنوا إلى أنهم صاروا غرباناً لا تظهر إلا وقت الموت والألم.

ولا يقتصر البؤس المتفشي على هذه القوى فأمثال هذه المآتم تذكرنا بصنف يستحب العيش في أوهامه، وتفصيل الحقائق على مقاس مقدساته؛ ليبرر لنفسه عبوديته المختارة، ولا حاجة للحديث عن موتى القلوب.

تَشْرُدُ بنا فَجِيعَتُنَا فنُفكر في البشاعة التي طحن بها الشهيد، ويهتز كياننا حين نتذكر الصورة التي زاحمت مشاهد البؤس والألم التي عايشناها كمغاربة داخل الوطن وخارجه، فلا نعرف حقاً هل نرثي محسن أم نرثي الوطن كما كتب العزيز محمد أحداد".(2(

لكن علينا أن نعي، بعيداً عن غواية اللحظة وفورتها، أن الشهيد محسن فكري لم يكن أول ضحية لآلة قتل وتنكيل تطحن "قصيري الرقاب"، فقد كانت قبله في نفس السنة مي فتيحة، والطلبة أساتذة وأطباء، والمعطلون، والاكتظاظ في المدارس العمومية، والولادة على أرصفة المستشفيات العمومية، وحرب الطرقات، والفيضانات، وضحايا العزلة..

فالمعطى الثابت هو الشطط في استعمال السلطة والتفنن في الإفساد والتحقير، لكن ما العمل في ظل توالي هذه المآسي؟

قد تلاحَمنا كمغاربة حول ما يجمعنا، ومحاولة إصلاح أنفسنا في تعاملنا مع المؤسسات فمن خرجوا في المظاهرات في شتى مدن المغرب يتصفون باختلاف انتماءاتهم واهتماماتهم ومجالات عملهم وتخصصاتهم، مع التأكيد على أن محاولات التغيير لا تُحتقر مهما صَغُرت، إضافة إلى الإبقاء على ورقة الشارع كمسألة مفصلية، فلا تغيير دون ضغط واعٍ وغير قابل للتطويع.

أردت أن أختم هذا الحديث الشارد الأفكار بمقطع من قصة قصيرة للفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي يتلاءم والمقطع الذي استشهدت به في البداية: "إننا لا نفرق بين الماء الذكر والماء الأنثى، ولا نتحدث عن طفولة الماء وكهولته أو شيخوخته، والسر في ذلك أن كل حبات الماء، وقطرات المطر، وأمواج البحر، وشلالات الجبال تجسد الحركة الدائمة، والتعاون المستمر.. فالماء الراكد ماء منبوذ من المياه، منفي في المستنقعات، عقاباً له إذا خرج عن الجماعة، إنه ماء لا يصلح لا للعادة ولا للعبادة..". (3(

فدون حركة دائمة تُحرك الآسن من المياه، وتتعاون من أجل التغيير تصديقاً لرغبتها فيه، سنبقى مواطنين "محكورين" متجاوزين وأرقاماً بعد الفاصلة لا يلقى لها بال إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، أو يرثنا الوارثون.

1- المتوسطيات عدد شتاء 1999 - 2000، مدينة النحاس، عبد الكريم جويطي، ص101، نشر الفنك.

2- جريدة المساء، عدد 31 أكتوبر/تشرين الأول، محسن.. هل نرثيك أنت أم الوطن، محمد أحداد.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل