المحتوى الرئيسى

سماح صبري تكتب: آلية تحرير سعر صرف الجنيه ومتطلبات المرحلة المحورية للاقتصاد

11/04 17:21

ما خلا حديث للمصريين، صباح يوم الخميس الأول من شهر نوفمبر، من خبر تعويم سعر صرف الجنيه المصري الذى أصدره البنك المركزى المصري. ولا يغيب عن الجميع أن قرار تحرير سعر الصرف يهم الشاب والعجوز، والتاجر والمقاول، والطبيب وربة المنزل وكل أطياف المجتمع والعالم الخارجي أيضًا. وقد أربك القرار المفاجئ كثيرا من المعاملات المالية، فهرع بعض الأفراد إلى البنوك لبيع ما في حوزتهم من عملات أجنبية، وتمهل آخرون انتظارًا لقراءة المؤشرات قبل اتخاذ القرار المناسب لاحقًا، وهناك من انتهز الفرصة وتوجه للبنك لشراء المزيد من الدولارات التى وصل سعرها فى السوق الموازية إلى 18.5 جنيه قبل قرار التعويم. وتعد أداة سعر الصرف المرن إحدى أدوات السياسة النقدية التى تساعد الاقتصاد المحلي على التفاعل مع الاقتصاد العالمي وزيادة الفرص لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

هذا القرار المحوري فى تاريخ الاقتصاد المصري قد وُلد متعسرًا ومتأخرًا، عرقلته الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر سنوات عن الولادة الطبيعية لكي تتقبله الأسر المصرية بنفوس أكثر ارتياحًا. فمنذ انضمام مصر -في يونيو 1995- إلى منظمة التجارة العالمية المنوطة بالإشراف على تنفيذ عمليات تحرير التجارة الدولية للسلع والخدمات وإزالة الحواجز بين الأسواق العالمية، كان لزامًا على الحكومات المصرية المتعاقبة العمل الجاد على تهيئة المناخ للاستثمار والنمو، وبناء قاعدة إنتاجية سليمة مستقرة، وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي والمالي المصري للاندماج مع العالم الخارجي ومواكبة حركة التجارة العالمية.

آلية تعويم الجنيه المصري وعملية التطهير:

فور صدور قرار تعويم الجنيه المصري، كثُرت التنبؤات جنبًا إلى جنب مع تبادل الاتهامات الموجهة إلى الحكومة المصرية بالتقصير والتلاعب بأعصاب المصريين. وهنا أود الإشارة إلى أن آلية التحول من نظام سعر الصرف المدار إلى سعر الصرف المرن لا تتم بشكل مفاجئ أبدا. فهل تصور المواطن المصري أن يصدر مثل هذا القرار صبيحة يوم هادئ بدون مقدمات إجرائية مؤلمة؟!! إن قرار التعويم يتطلب سلسلة من الإجراءات التمهيدية والقرارات الضرورية تمكن الحكومة من إدارة التمرّن بفاعلية والانتقال إلى المرحلة التالية بنجاح. وهو ما فعلته الحكومة أثناء "مرحلة التعويم الموجّه" خلال الفترة السابقة. فلم تكن الدولة مغيبة، بل إن الحكومة وظفت أدواتها التشغيلية والإعلامية بشكل مكثف لمراقبة وقياس وتقييم مختلف الأسواق المصرية وبالأخص سوق العملة الموازية. كما قامت الحكومة خلال تلك الفترة الانتقالية أيضًا باتخاذ عدة إجراءات متوالية، حيث بدأت بتوجيه ميزان المدفوعات وفرضت قوانين ورسوما إضافية على بعض الواردات، وخفضت الإنفاق الحكومي والدعم على عدد من السلع والخدمات بهدف خفض العجز فى الموازنة العامة، كما سعت إلى زيادة مستوى الاحتياطيات الدولية في البنك المركزي. وخلال تلك الفترة المشحونة بالقرارات الصعبة كانت تتم عمليات المراقبة والتقييم التي مكنتها من تحديد النقطة المركزية للانطلاق بسعر الصرف المُعوّم. ولن ينتهي دور البنك المركزي فور قرار التعويم مباشرة، إذ إنه خلال المرحلة الأولية وبجانب الوساطة فى عمليات البيع والشراء للعملة، قد يتدخل لشراء العملة الأجنبية لإعادة التوازن إلى سوق الصرف كنوع من "التطهير أو التعقيم" لتفادى ارتفاع سعر العملة، أو يستخدم أداة سعر الفائدة لتقليل العبء على سوق الصرف وردع المضاربين.

نشأة سوق الصرف الموازية (السوق السوداء):

انتشرت فكرة السوق السوداء (أى تبادل السلعة بطريقة غير قانونية لتفادي الإجراءات الرسمية وعدم الخضوع لقوانينها) بعد الحرب العالمية الثانية، وبالأخص بعد توقيع اتفاقية "بريتون وودز" والتي بموجبها أصبح الدولار الأمريكي هو السلعة الأساسية المرجعية للمقارنة والتقييم والتسعير. ثم تناولت العديد من الدراسات والنماذج الاقتصادية ظاهرة الأسواق الموازية واهتمت بتحليل سلوكها وأثر تعاملاتها المالية على الاقتصاد، وأسباب الفجوة بين سعر العملة فى السوق الرسمية والسوق غير الرسمية، والعلاقة بينهما ومصادر التغذية لكل منهما. وهناك دراسات أشارت إلى أن سعر الصرف فى السوق الموازية (غير الرسمية) هو الانعكاس الحقيقي لحالة الاقتصاد. غير أن وجود نظامين متوازيين للمعاملات المالية لم يكن مقبولا لصعوبة المراقبة والقياس والتحكم فى المتغيرات الإقتصادية، فدعا خبراء المال والاقتصاد إلى ضرورة تحرير سعر الصرف للقضاء على القنوات غير الشرعية لتداول العملات.

قياس مدى نجاح قرار تعويم سعر صرف العملة:

يصعب القياس الدقيق للنتائج المترتبة على أي قرار اقتصادي لسببين: أولهما أن عملية التنمية الاقتصادية تعتمد على عوامل كثيرة متداخلة يصعب عزل وتتبع أثر عامل واحد منها منفردا مثل نظام سعر الصرف. ثانيًا لأن المنهج التحليلي لظاهرة اجتماعية معينة ومعرفة "ما قبل وما بعد" القرار يحتاج إلى بيانات دقيقة ليتم تحليلها. ومع ذلك، اتفق الخبراء على أن يكون أداء ميزان المدفوعات ومعدل التضخم والناتج المحلى الإجمالي ومعدل البطالة هي المقاييس الأكثر أهمية لدراسة أثر تحرير سعر الصرف على الاقتصاد. ومن خلال الاطلاع على تجارب عدة دول، يمكن القول إنه إذا صعد سعر الصرف المرن إلى مستوى أعلى من سعر السوق السوداء فإن ذلك يعكس إما خللًا فى الاقتصاد المحلي أو يشير إلى تدخلات غير مباشرة من الحكومة للتحكم فى سعر الصرف. وعلى الجانب الآخر، إذا انخفض سعر الصرف بعد التعويم إلى مستوى أقل من سعر السوق السوداء فإنه يعكس قوة الاقتصاد وقدرته على جذب رؤوس الأموال الأجنبية، ويعد مؤشرا قويا لعدم تدخل الدولة فى آليات السوق. وبالتالي فإن نجاح قرار التعويم يعتمد على مدى تحسن معدلات الشفافية والتنافسية ومنع الاحتكار، وحرية وسرعة تبادل البيانات، وضبط السياسات المالية وخفض الديون الحكومية، وتوفير السيولة، بالإضافة إلى تحسين أداء ووظائف خدمات التجزئة، وتوفير وسائل اتصال وشاشات عرض فورية للأسعار بمشاركة جميع البنوك لمنع إنشاء سوق موازية مرة أخرى.

الفترة الزمنية التى تستغرقها عملية تعويم سعر صرف العملة:

استغرقت بعض الدول نحو عامين فى عملية تحرير سعر صرف عملتها، بينما مكثت دول أخرى نحو ثماني سنوات حتى توقفت تماما عن التدخل في تحديد سعر الصرف والفائدة، وامتدت الفترة إلى عشر سنوات مثلما حدث فى دولة المكسيك. كما تُعد تجربة دولة غانا في تحرير سعر الصرف من التجارب الجديرة بالاطلاع والتي استمرت نحو ثمانية أعوام، حيث بدأت سياسة التعويم فى وقت بلغ فيه سعر العملة المحلية فى السوق السوداء 40 ضعفا للسعر الرسمي، لكنها عملت بدأب خلال عملية التصحيح "مرحلة التعويم الموجه" التى استمرت لمدة ثلاث سنوات، على دعم الصادرات والرقابة على الواردات لتوفير العملة الأجنبية. ثم بدأت مرحلة التعويم النهائي تم خلالها كسر الخمول الاقتصادي وإنعاش السوق من خلال خفض قيمة الأجور الحقيقية للضغط على الطلب العائلي، وتقليل الواردات وتشجيع الاستثمار، مع القيام بالإصلاحات المالية والهيكلية الضرورية. وكانت النتيجة على المدى القصير هي انخفاض معدلات الادخار الخاص والاحتياطي النقدي وانخفاض قيمة العملة المحلية وارتفاع سعر الفائدة، إلى أن استطاعت دولة غانا استعادة الثقة فى اقتصادها من جانب المستثمرين الذين فتحت لهم الأسواق ووفرت لهم  الحماية والإجراءات الميسرة مما كان له أثر إيجابي على معدلات النمو والتضخم وسعر الصرف (اليوم سعر عملة غانا مقابل الدولار= 3.85 سيدى).

وبناء على ما سبق توضيحه، يمكن أن نصف سعر الصرف بأنه الابن المزعج لعملية الإصلاح الاقتصادي، لذا يتم التعامل معه بحذر واهتمام. فهو دائما فى حاجة إلى أن تصاحبه سياسات مالية ونقدية حازمة ومتفهمة لما يتعرض له من ضغوط، كما أنه في حاجة إلى مناخ مناسب للاستقرار، ويتطلع إلى قدر عال من الشفافية واللا مركزية والقضاء على البيروقراطية ووضوح الخطط المستهدفة، مما يشجعه على الصمود فى وجه التقلبات المحلية والعالمية المحتملة.

ومن ثَم فإن المرحلة الاقتصادية الحالية تتطلب توضيح ما يلي:

- أن الانتقال من نظام صرف ثابت إلى مرن يحتاج إلى عناية في التخطيط، وفترة زمنية للتصحيح قد تستغرق سنوات لإجراء تجارب استطلاعية عقب كل قرار إصلاحي بهدف اختبار السوق وقياس ردود الأفعال من جانب الأفراد والمؤسسات ورصد المتغيرات الاقتصادية، حتي يتم التأكد التام من صلاحية القرار ومن ثم الانتقال إلى الخطوة اللاحقة. لذا فإن القول بأن الحكومة المصرية تأخرت فى إصدار قرار التعويم غير صحيح، والأصح القول بأن الحكومات المتعاقبة (منذ الانفتاح على العالم الخارجي والانضمام لاتفاقية الجات) قد تأخرت كثيرا فى إعادة الهيكلة وإجراء الإصلاحات اللازمة.

- أن نسبة التدرج التى يتبعها صانع القرار أثناء عملية تحرير سعر صرف العملة تعتمد على مدى توافر موارده المادية والسيولة المالية، والدراسات السوقية التى تقدمها إدارات المخاطر والتشغيل والمراقبة، ليصبح مهيئًا وعلى استعداد للتدخل وقت اللزوم إذا تطلب الأمر، حتى لا يفلت السوق من قبضته ويصعب السيطرة عليها. وهو ما قامت به الحكومة المصرية خلال الشهور السابقة حيث أصدرت قرارات بخفض الدعم تدريجيا عن الكهرباء والمياه وأقرت ضريبة القيمة المضافة، وفرضت رسوما على بعض الواردات وغير ذلك، إلى أن صدر قرار التعويم.

- أن سرعة تعديل سعر الصرف تتوقف على سرعة تحرير حركة الصادرات والواردات، حيث إن سعر الصرف يُعد أهم متغير فى معادلة العملية التجارية، والتنسيق بينهما ضروري للتحكم فى عملية الإصلاح الاقتصادي والمالي. ونظرًا لأن مقومات تنشيط الصادرات غير متوفرة في الاقتصاد المصري على المدى القصير، لأنها تعتمد على زيادة الإنتاج والعرض وتوافر التمويل، فقد لجأت الحكومة إلى السياسة المالية من خلال خفض الأجور ورفع الضرائب لتحسين القدرة التنافسية وتوفير السيولة.

- أن التوافق الاجتماعي، ووعي الأفراد وتفهم مدى الحاجة إلى عمليات الإصلاح والتحرر يساعد على سرعة عملية الانتقال لنظام سعر الصرف. ولا يخفى على الجميع وجود اضطرابات وتشتت في المجتمع المصرى منذ ثورة يناير 2011، الأمر الذي يصعب معه إصدار قرار التعويم فى فترة زمنية أقل نسبيًا وبدون الإجراءات التحضيرية سالفة الذكر.

- أن لجوء الحكومة إلى محاربة التضخم من خلال خفض قيمة الأجر الحقيقي وزيادة الضرائب كي ينكمش الطلب الاستهلاكي أمر يتفهمه أصحاب الدخول المرتفعة، بينما يصعب على متوسطى الدخل قبوله ويرفضه أصحاب الدخول المنخفضة والمعدومون. وأظن آن الأوان لإعادة النظر فى قوانين العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخول لضمان حصول شرائح المجتمع الأكثر احتياجا على متطلباتها، ولضمان وصول السلع الأساسية والدواء إليها، حفاظًا على ترابط أفراد المجتمع وتماسكه.

- أن عملية زرع الثقة فى الاقتصاد عند المستثمرين تحتاج إلى قانون استثمار متماسك ومحدد وشجاع فورا، لا يتهاون فى حساب المنحرفين ولا يغفل عن مكافأة المخلصين، قانون يحفظ موارد البلاد ويحمي حقوق أصحاب رؤوس الأموال معًا دون إفراط أو إهمال. وأن تتعامل الحكومة مع أصحاب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية باعتبارهم شركاء أساسيين فى عملية التنمية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل