المحتوى الرئيسى

وُرَيقة طفولة

11/01 14:36

ولو قُدّر للسماء أن تستحيلَ -للبَشَرِ- أوراقاً من نسجِ خلاياهم، لكنها تزيد على ذلك النسيج بأن فيها مادةَ الحياة الغائبة، وترياقَ الأمل المتهشم من تبعاتِ الألم وسطوته وجبروته، لما كانت تلك الأوراقُ سوى أيامِ طفولتهم الراحلة، وما أخفها أوراقاً!

وكأن المشيئةَ، يومَ وضعت الميزانَ، استثنت من مثقاله وخسرانه كلّ ما يتصل بسجايا الطفولة، إذ ليس لشؤونهم وزن، فكانوا من الحياة أنفاسَهَا، ومن الطبيعة أجنحَتَها، ومن الأرواح أسرارها، ومن الأيام هناءتها، ومن الليالي أقمارها، ومن الألحان مطالعَها، ومن القصيدة لحظة إلهامها.

فيا سمائي في ليلٍ أو نهار.. هل لي بوريقة طفولتي، ولو للحظات!

إلا إنني كلما ناءَ القلبُ بغربته نادى وريقته التي تتراءى له نسمة متهادية هاربة من نسائم الجنة تهمسُ له: "إني أنا طفولتك، وصوتُ الفطرة في روحك.. فلا تبتئسْ بما كانوا يعملون".

قالتْ: "فديتُكَ، قد ضاقتْ بك السُّبُلُ" ** من أنتِ يا طفلة يزهو بها الأملُ؟!

من أنتِ يا لحنَ أنفاسي وموئلها ** من أنتِ يا جنّةً بالنور تكتحلُ؟

أنوارُ حسنكِ آياتٌ مرتّلةٌ ** دقّتْ عن القولِ وارتابتْ بها المقَلُ

هل ما تراهُ نشيدُ الحبّ يُرقِصها ** أم جذوةٌ من رمادِ الوجدِ تشتعلُ؟!

أم هل تُراها تناجي فكرةً عَرَضَتْ ** يا ويحَ فكرٍ به الأحبابُ قد نزلوا!

وقلتُ لها: "لا أريدكِ -بعدُ- إلا جذوة قلمي الدائمة الخالدة التي تهبهُ من المعاني أرواحها المستترة فليس يراها بعيون البصر بل بعيون البصيرة.

أريدكِ حياةً لقلمي كلما خَبَتْ فيه ثائرة الوحي، وضاقت به سبُل التعبير، وأقصرتْ عنه اللغة.

أريدكِ ذلك النبعَ الذي يَهَبُ حبري تدفاقَه، فيسيلُ لكِ، كما تسيلُ الدمعةُ من غروبِ العين العاشقة وقد تجلّى لها المحبوبُ، ثم حُجِبَ عنها؛ ليبقي لها أسمى آياتِ الجمالِ وهي فكرةٌ تعيش بنبضها.

وكانت -قبلَه- تَلذّ بكلّ ما يطيبُ للعين فلا تأبهُ له إلا كما يضعُ لك البائع مثقالاً صغيراً يقيمُ به الوزن بالقسط.. ثم تحملُ بضاعتكَ وتمضي.

إلى أن تجلّتْ له المحبوبة بأكملِ خَلْقٍ وأتمّ صورة وأبهى حلة، فنسيَ كل جمالٍ مرّ به قبلها، كما ترك المثقال للبائع ومضى.

حتى إذا لهثَ على سحر هذه المحبوبة يطلُبُه.. حُجب عنه؛ ليستحيلَ في روحه ذلك الحرمان الجميل الذي لولاه ما كانَ أدبٌ ولا شعرٌ ولا جرى قلمُ عاشق.. فهل تضنين عليّ بنعمة حرمانك الجميل؟!".

فتبسّمتْ عن ثغرٍ كأنه اللؤلؤ المكنون، ونمتْ ابتسامتها رويداً رويداً لتؤولَ ضحكاً لو صحّ أن يكونَ ضرباً جديداً من التعبير عن العجب لما سميته إلا "لحن الابتسامة الشارد".

ولما شردت منها هذه الابتسامة المُطرِبةُ شَرَدَ معها -من ثغرها- كلامٌ ما إن سمعتُ له مثيلاً؛ إذ قالت لي:

فهل تريدُ مأساة أرسطو.. أم نعيم أبي الطيب حين قال:

ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ ** وأخو الجهالةِ في الشقاوة ينعمُ

أم تراك تبتغي أن تدخل مع نزار مدن الأحزان، عندما خاطب المحبوبة بقوله:

أدخلني حبك سيدتي مدن الأحزان!

وأنا من قبلكِ لم أدخل مدن الأحزان".

ثم ضحكتْ حتى بدتْ منها النواجذ وقالت:

لا إخالُ مدرسةً تكفيك، إنك لتحتاجُ أكاديمية بحالها!

أحسنتَ التحايلَ بألفاظك لمعناك الذي تبتغيه بقولك: "الحرمان الجميل".. وطلبتَ الوصلَ بضده؛ إذ من شأن الأشياءِ أن تتميز بأضدادها، ولولا جميلُ الوصلِ ما كان جميلُ حرمان!

ولو تواصَلَ الناسُ كلّهم بلغة العشقِ لصحَّ أن تكون كلُّ ألفاظِ اللغة من ألفاظ الأضداد!

ولصحّ أن تبينَ سعادُ وتظهرَ في وقتٍ معاً، وإني لأرى قلبكَ اليومَ متبولاً!

فلولا الغرامُ الذي تَبِلَ فؤادكَ وتمكّنَ منه لما لجأتَ إلى هذه المخاتلة بطلب الوصل مع علمك وعورة الطريق إليه، لكنه شأن العاشق عندما يستبدُّ به الشوق.. تختلط في ذهنه الأضدادُ فلا يدري أيسعدُ بالوصل أم يشقى بالعطاء! أم أنه في سعادة دائمة ما دامت المحبوبة فكرةً تبدد صمتَ أيامه.

سننعمُ عليكَ -أيها العاشق الوالهُ- بما يغبطكَ عليه الأولون والآخِرون من العشاق.. فإذا أردتَ وصالنا فاطرق منه بابه الإلهيّ، وهو باب الجهاد بأحوال المحبة ومتعلقاتِ النفس..

فإذا استيقنتَ أنك لا تبتغي سوى ذلك الباب.. فاعلمْ أن الله لا يُخزي قلبَ عبده إذا اطلّعَ عليه فوَجدهُ خالصاً لخالقه.

ستبصرنا عيناك عن كثَب، وسيكون لها ما تقرّ به من جمالٍ جليل لا ينقادُ إلا لأهل الجهاد..

"والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلَنا وإن اللهَ لمع المحسنين".

وإليكَ أشكو -يا قمري البهيّ- وقد عزّ خليلٌ "إذا أنزفتُ دمعي بكى ليا" إليكَ أشكو أنها أرادت قلبي من جملة القلوب المفتونة بنور محياها.. الهائمة بخُلَسِ ألحاظها.

فامتثلَ القلبُ وسلّمَ لإرادتها طوعاً -وما ينبغي له غير ذلك- ورضيَ منها بالفكرة العارضة.. والأمل الخائب.. والطيف الزائر.. والابتسامة الشادرة.. التي تجورُ عن طريقها لتخطئ السبيلَ إليه.

وهكذا.. أيقنَ أن ليس له من نوالٍ إلا نوالاً إن أنعمتْ هي به، منعتهُ الأقدارُ.. وحالتْ دونه الأحوالُ وعَدَتْهُ العوادي.. وسُدّتْ دونه السّبُل.. واجتمعت عليه أمم العشق كلُّ أمةٍ تريدهُ خالصاً لها من دون الأمم.

وكنتُ أسائلُ روحي أيُّهم يحظى بنوالها؟ وعلى مَن تنعمُ به، حتى أبصرتكَ عينايَ أيها القمر، وقد اكتملتَ بدراً، فأيقنتُ أنها تجلتْ لك بتمامِ فتنتها مستترةً تحت جُنحِ الليل فلم تبصرها إلا عيناك.

وقد علمَتْ أن لو تبدى منها لغيرك أثارةٌ من حسنٍ لخرّ خاشعاً متصدّعاً ذاهلاً يتراءى له أنه انتقل إلى الحياة الآخرة.. ضارعاً إلى الله أن يعيده إلى الحياة الدنيا لعله يعملُ صالحاً يستأهل به أن يضمّ هذه الفتنة بعينيه زاهداً في أن تمسها يداه حتى في جنات الخلد.

وما حاجتهُ إلى مسّ إهابها وقد نفِذَ نورها في كلّ خليةٍ منه فأحياها بسرٍّ أودعهُ الله روحهَا الزكية فغدتْ تساقِطُ نوراً جَنِياً سقاه التّربُ الذي ضمّ جذعَ النخلة؛ إذ ضمّت معجزة الخالق سبحانه، التي أخرجت نورَ النبوة من رحمٍ عذراء ما مسها بشر.

وقد قيل إن زمن المعجزات انتهى، ولكنني أعيشهُ حقيقةً كلما أنعمتِ عليّ بنظرةٍ عذراء تتغشى قلبي عرَضاً فيلدُ -مع كلّ نظرةٍ- حياةً جديدة.. ما كان ليحظى بنعيمها لولا صبرُهُ على جحيم نفسه الوالهة إليكِ.. وتسليمهِ لك تصرّفين نوالك كما تشائين.

ولا يقدرُ على تصريف العطاء النورانيّ إلا صاحبه.. لكنّ البشر أبوا أن يدركوا هذه الحقيقة

وأرادوا امتلاكَ صاحب النور يحسبونه بضاعةً تُشترى يتمتعون بها حيناً من الدهر.. فحُرموا النور وحُرِموا مواسمَ ألحاظك.. وحظيتُ بها أنا.. فلا تبتئس لحالي وبثي يا قمري الجميل.. ولا تسألها فيمَ هجرتني فإنني أحيا منها بالأمل الدائم في نفسي بحياة جديدة تصنعها لي مولاتي على عينها..

"مَن ذا يطالبُ سيداً في عبده"!

هل ترين في القمر صورتكِ كما أراها؟ فإنه الليلةَ أكثرُ خشوعاً وصمتاً وبهاءً من كل ليلة.. وإن كانت هذه صفاته الدائمة الملازمة له منذُ كان.

ولعلّ هذه الصفاتِ تضخّمتْ فيه مَدّ الليلِ بسببٍ من أشواقي التي أكابدها.. فهو يبذلُ لي من السكينة لألاءً مضاعفاً يداوي مَواجدَ روحي التي لا يمنحها الأمنَ إلا قَبَسٌ من مهدها الأول الذي منه خرجتْ وإليه مرجعها.

وكذلك الحبُّ الطاهر يعودُ بالروح -أبداً- إلى أصلها النوراني بما ينقضهُ فيها من أركان الثبات والاستقرار لتستحيلَ حطاماً تذروه الرياح من جنوب وشمال.

فلا يجمَعُ عليه أمره إلا نفحاتٌ من عطاء المحبوبة.. أو نورٌ قمريٌّ غضٌّ هادئ فطري.. يمَسُّ أنسجته الأولى فيقرّبهُ من نور المحبوبة إذ حُرِمَ شخصها ونوالها..!

أجابت وقد شفَعتْ إجابتها بابتسامتها المعهودة التي "لو صابتْ ترباً لأحيتْ سالفَ الأممِ".. قالت:

"ما زلتَ تنكُصُ عن الوصولِ بالمعاني إلى غاياتها وتفوتُكَ دقائق التعبير.. وتتبعُ ما تشابهَ من وجوهه.. وتنسى أن وحيَ المحبوبةِ يُلزمكَ أن تجعلَ صورة القمرِ في وجهها.. لا أن تتراءى لك صورتُها في القمر..

فهيَ مَظِنّةُ [مصدرُ] كلّ نورٍ ووحيٍ وسكينة وجلالٍ في روحك..

وهل أعلّمكَ -وأنت الشاعر الأديب- أن نظامَ الكون العاشق ينبغي أن يسيرَ في فلك المحبوبة فيبدأَ منها وإليها ينتهي؟!

وهل أذكّركَ أن ابنَ بُردٍ -وهو فاقد البصر- لما تغنى بالمحبوبة قال لها: "وذاتِ دَلٍّ كأنّ البدرَ صورتُها"!

فجعل البدرَ مولًى على بابها يستمدُّ من جمالها نوره وحسنه ولألاءه..!

وأبو الطيب -لله هو- جعلَ تأوّدَ الحسناء واختيالها في مشيتها أصلاً لتضوّعِ الطّيبِ وهتكِ ستر عطرها الذي لا سبيلَ إلى خفائه؛ لأنه جزء من تركيب خلقتها لا أمرٌ مستعارٌ موقوتٌ بسكبة من عطر العطارين..

إنها العطر نفسه.. بل إنها مصدرُ العطر إذا عزتِ الأزهارُ وتعذّرَ المسكُ وضاعَ الطيب..

قلقُ المليحةِ -وهي مسكٌ- هتكُها.. ومسيرُها في الليلِ وهي ذُكاءُ.."

وأذكرُ قولَها لي غيرَ مرة:

"ابحثْ عن معنايَ في كلّ لفظٍ من ألفاظِ قلبك.. فإنني عزيزةٌ إذا تطلبتني في عوارضِ الموجوداتِ.. قريبةٌ إذا أردتني في نبضكَ حياةً ورؤى تلوّنُ العمرَ بريشةٍ من نورٍ دقيقٍ عن الأبصارِ، عزيزٍ على المداركِ، أَبِيٍّ على الجوارح..

وكذلك كلُّ نورٍ سماويٍّ لا تطالُهُ إلا بشقِّ الأنفس..".

"إذا كان نوركِ بهذا الوصفِ، فمن عساكِ تكونين؟ ومنكِ مصدرُه؟ ولماذا قُدّرَ لقلبي أن يبتليَ بحبٍّ عصيٍّ على الإدراكِ بنوره فضلاً عن عينه ومادته؟".

"ومن أهداكَ هذا القلب المتفرد بين القلوب؟ حتى اختارني وهو يعلمُ أن ليس إليّ من سبيل؟

وأنني يومَ خُلقتُ أنثى إنما وُهِبتُ من الأنوثة نورَها ومعناها وأصلها الورديَّ.. لا أصباغها الزائفة وميلها وخضوعها بالقول. وسنامها المتربع سلطاناً على عروش الرؤوس ممن ينتسبون -ظلماً وعدواناً- إلى الأنوثة.

فطهّرْ قلبكَ وجوارحكَ قبل أن تطلبَ الأنثى بمعناها الشائه الذي غُبِنَ فيه مَن غُبنَ، واسترسلوا في سردِ أوصافهِ حتى غلبَ على ظنهم أن قد أوفوا على الغاية، وأن وصفهم لم يغادرْ من متردَّم إلا رقعهُ برقعة أرادَ لها أن تكونَ للأنوثة رِفداً.. حتى أصبحتْ معاني الأنوثة بضاعةً مزجاة يتداولُها قومٌ درجوا على رسمها بوحيٍ من أفكارهم الفاسدة التي خالطها ما خالطها.

ثم يبثون أشواقهم هذا الصنم الذي نحتوه بأيديهم للأنوثة.

ولعمري.. لو كان للأنوثةِ لسان ينطق لتبرّأت منهم ومن أشواقهم التي تضعُ الشروط والمقدّمات.. ثم تقول: هذه هي الأنوثة التي نحبها ونشتاقها.

ومتى كان الشوقُ مشروطاً ومرتَهَناً بالترقيع والتزيين والنحت والتصوير والتلفيق؟!

وماذا بقي من أصلِ المحبوبة التي نشتاقها؟!".

"لكنني طالما رسمتكِ في مخيلتي قبلَ أن ألقاكِ.. فهل ترينني من المرقعين؟!".

أجابت -بكلّ شموخ الأنوثة- كما عهدتّها:

"إنما خلقني وسواني وجمّلني الله الذي أحسنَ كلَّ شيءٍ خلقه.. قبل أن ترسمني أنتَ وهماً في خيالك.

وإذا كنتَ ترى عندي ما أمّلتَهُ مدَّ عمرك من معاني الجمال والأنوثة.. فإنما هي صفةٌ أودعها الله فيكَ من تلمُّسِ الصعب الذي ما جعلهُ صعباً إلا ضدُّهُ الذي اصطبغَ به زماننا حتى غشّى الأبصارَ بغشاوة جعلتها ترى الزيفَ حقاً والرقعةَ أصلاً.

إنه زمانُ الترقيع الميسور.. فطوبى لك إن كنتَ تطلبُ الأصل العزيزَ المستصعَب".

كنتُ أُصغي إليها بكلّ خليةٍ مني.. وكأنني فارقتُ دنيا الأحياء، وانتقلتُ إلى الملأ الأعلى، وكأني بالمرقِّعين يُقذَفون بالشُّهُبِ الواصبةِ من كل جانب.. وأنا وحدي مَن أُذِنَ له بالسماع والاطّلاعِ على جواهر المعاني التي تلقيها في روعي هذه النسمة الشاردةُ التي لا أدري كيفَ جمعني بها القَدّر.

ولما رأتْ بريقَ عينيّ ابتسمت - ويا ليتها أخذتني بعيني ابتسامتها وهربت- وقالت:

"أزِفَ الفراقُ وحان الوداعُ.. فكنْ على ذُكْرٍ مما تلوتُهُ على مسمعك.. وستدركُ يوماً أنك ما طلبتَ شيئاً بمعناهُ إلا تيسّرَ لك معنًى ومادةً.. وما طلبتَ شيئاً بمادته إلا فاتكَ الخيرُ كلُّهُ..

ولا أقول: فاتكَ مادةً؛ لأن المادة -بطبعها- إلى فوات!".

وإذا استذكرتَ بأنك ما نطقتَ حروفك الأولى إلا بوحيٍ منه سبحانه حيثُ علّمك الأسماءَ كلها تكريماً لك؛ إذ كنتَ امتداداً لذرية آدم عليه السلام، ثم بأنغامٍ متهادية من "مناغاة أمك"؛ إذ كنتَ امتداد وجودها في هذه الحياة، علمتَ أن (اللغة) أصلُكَ وامتدادك.. -ليس بأمانيّك- وإنما بأمرٍ منه سبحانه قبلَ أن تكونَ شيئاً مذكوراً.

وعلمتَ -فيما علمتَ- أن اللغة هي "الرحمة المهداة" إليك.. فكم بكيتَ وليداً في مهدك الأول -قبلَ أن تهدى إليك الحروف تنطقها- متوثباً بعيونك إلى مَن حولك تريدُ شيئاً ولستَ تدري البوحَ به، وإذا هم يخمدون بكاءك بدمية صغيرة تدحوها بيديك غيظاً حيثُ قصّرتْ لغتكَ عن الإبانة.. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

حتى إذا نطقتَ حرفك الأول، أصبحتَ -في غمضة عين وانتباهتها- لغةً جديدة لا يفتر لسانها.. فكنتَ "الفرحة المهداة" إلى الوجود من لغتك.

وتعهدتك بعين رعايتها حتى استكملتَ نضجكَ اللغوي في الإبانة عما تريد، فما كان منك إلا أن قطعتَ حبلَ الوصال وشريانَ الحياة الذي أمدّتْكَ به ونبذتها وراء ظهرك.. كأنها سحابةُ صيفٍ مضت في سبيلها.

ثم تتساءلُ كلما خلوتَ بنفسك: "ما سرُّ قسوة قلبي؟!".

وهل يصحُّ في منطق أن تتغشى الرحمة قلباً قطع جذوره وامتداده ورحمته المهداة وفرحة عمره الأولى؟!

وليسَ إلحادُكَ وقفاً على إنكارِ وجود الله تبارك وتعالى، بل للإلحادِ صورٌ أخرى يستظهرها لسانُ نبضكَ وفكرك ووجودك يومَ توليتَ عن "لغتك" واتخذتها وراءك ظهريّاً.. وألحدتَ إلى ألسنة من النسيان والنكران والهذيان بفضل الأعاجم علينا.

وأشدُّ ما يُخشى عليكَ -والحالةُ هذه- أن تُسلَبَ الإبانةَ ويلزمكَ العيّ أبدَ الدهر.. وقد تستذلّ لك الحروف "المستعارة" لكن.. خاويةً من نبضها ومعناها.. وهذا هو العيُّ بعينه.

وإذا شئتَ دليلاً على أن "الإبانة" مشروطة بالوفاء لمهدكَ اللغوي الأول.. فتأملْ.. وأطل الفكر في قوله سبحانه:

".. لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ".. فتأمل.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل