المحتوى الرئيسى

هشام جابر.. اختراع الماضي

11/01 01:49

الماضي هو الوحيد الذي بقي لنا. إنه بالنسبة لنا الزمن، تقطعنا عنه قرون، منذ الفتح العثماني لم يعد لنا تاريخ. ما نستحبه الآن، ما يروقنا في يومنا، نضيفه إليه. ربما لهذا لا يبقى لنا من حاضرنا سوى الشهداء، وحدهم يلتحقون بركب بدأ مع أول تاريخنا. الماضي الباقي، ما يتبقى من الماضي، نعيشه كما لو أنه بلا تاريخ. ثمة محطات تبث طوال الوقت أم كلثوم، لقد صارت في الزمن أي الماضي. صناعة الماضي هي ما نتقنه، بالطبع ليس هذا الماضي سوى زماننا الوحيد. إننا نعرفه كزمان مطلق، نسمع أم كلثوم لأنها في هذا الزمان. الماضي زماننا لكننا نعرفه كزمن حي مستمر ولا قطيعة بيننا وبينه. إنه لا يحمل هذا الاسم أي إنه ليس زماناً آخر، ليس زماناً ثانياً، لهذا لا نعثر عليه في الأثريات، لا نعثر عليه في الوراء. إنه سيال مستمر.

هشام جابر هدم هذه الأطروحة. عاد إلى القديم الحي وجعل منه ماضياً، لقد قدم سيد درويش وأبو العلا محمد وعبده الحامولي لا على أنهم معادون إلى الحياة، مبعوثون في حياة ثانية بل على أنهم أبناء ماض بيننا وبينه، ليس فقط زماناً ولكن عوالم كاملة. وإذا أعدناها إلى الحياة، أعدناها مع عالمها، ومن خلال عالمها، لعل ما يطلع هشام جابر علينا به هو هذا تماماً. الماضي الذي يعنيه ليس سيولة الحاضر، إنه غير الحاضر وله شاراته ولغته وعلائمه. له زمنه وعالمه المختلف، ومن هذا الاختلاف ينبع سحره، الذي ليس أمثولاته ومفاخر وليس عظاته ودروساً، إنه سحر عالم وزمن مختلفين، ويقدم كما لو أننا نعيد هيكلته، كما لو أننا نستعيد سحره الذي ينبع من اختلافه وانقطاعه وعالمه الخاص.

من هنا كانت «هشك بشك» في تياترو بيروت جديدة علينا، لقد عاد هشام جابر إلى الماضي، لم يلتقط منه فتاتاً إضافة إلى الحاضر ولكن أعاد تصوره وقدمه ككتلة واحدة، كبناء متكامل، كعالم. لقد قدم إلينا الماضي لا كزمن مطلق بل كزمن محدود، له معالمه وهيئته واختلافه. أحببنا «هشك مشك» التي أعادت لنا الماضي، أعادته كماض، أعادت هكذا سحره وغرابته. أعادتنا إلى الكاباريه المصرية في بدايات القرن الماضي وبالطبع جعلتــنا نرى بداياتنا ومســارها، هكــذا أمكن لنا أن نرى أسلافنا في الكاباريه، في يومياتهم وأوقــات طربهم. كان أمامنا عالمهم المختلف والخاص والغريب.

«عين الشيطان» اسم غريب يبعدنا أكثر مما تبعدنا «هشك بشك» إلى الماضي، ليس للماضي اختلافه وانقطاعه، فحسب بل له هذه المرة «سحره» من السحر «Magie» أما ما دعا هشام جابر إلى هذا الاسم في احتفالية مرور 20 سنة على مسرح المدينة فهو مزيد من اجتلاب الماضي ومزيد من العود إليه. المسرح نفسه لن يكون شيئاً آخر. سنرى الممثلين جميعهم بياقة بيارو، سنجد موسيقيين بنفس الياقة وقد انزوى كل منهما في طرف غائم من جانبي المسرح. سيكونان مرئيين بغموض ولكن أيضاً بسحر، سنرى أيديهما تعزفان بدون أن نلمح بوضوح الآلات التي يعزفان عليها. في وسط المسرح على مرتفع هناك ثلاثة بالباقات في خلفية المنصة. قلما يتحركون في وقفاتهم لكن وجودهم هناك أقرب، إلى الحراس منهم إلى الجوقة، في مقدمة المنصة شاشة تمر عليها ثمة صور متحركة هي في الغالب لقاء أو اندماج أو صراع كائنين قد يكونان أفعى وقد يكونان هيكلين عظميين وقد يكونان حوتين ينغمران في الأمواج. هما أكثر تنوعاً من ذلك لكننا هنا نتذكر عين الشيطان كل مرة. إنها استحالات سحرية واسترجاع لعالم سفلي وصور منبثقة من هذا العالم.

أما الموضوع الذي أنشئ حوله هذا العالم السحري فهو غناء سيد درويش وما في هذا الغناء من إشارات سحرية أو بكلمة ما فيه من إشارات إلى الشيطان وإلى عين الشيطان. تقف مريم صالح فوق المنصة. وذقنها على أعلاها، تندمج أحياناً مع الصور التي ينجدل إليها الكائنان اللذان يلتقيان على شاشة المنصة، تغني مريم صالح أغاني سيد درويش التي حوت إشارات شيطانية، تغني لكنها تحوّر صوتها وتحوّر غناءها طوال الوقت، وأحياناً يتحول صوتها إلى انفجارات صوتية. أي إننا لا نزال في عين الشيطان، ولا تزال مريم صالح تغني سيد درويش انطلاقاً من عين الشيطان الكامنة في أغانيه، إنها تغني بالتواء شيطاني وشطحات شيطانية. تبقى على المنصة ويتدخل معها آخرون لكن غناءها «الشيطاني» هو جسم الموضوع.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل