المحتوى الرئيسى

يحكى أن شخصاً زرع شجرة الحياة في صدر أخيه فأثمرت

10/31 13:33

لي صاحب يصحبني حتى في بعض زياراته الخاصة، كعادته طلب مني مرافقته، وكعادتي وافقت على الفور دون أن أسأله مَن ولماذا؟ هو صديقي المقرب، إنسان بسيط بكل المقاييس، متواضع جداً، يعيش بعفوية ولا يعرف اللؤم إلى شخصه طريقاً، أكل عليه الزمان وشرب، مصاب بالكثير من أمراض العصر، لم يكن كبيراً في عمره، لكن من يراه يعتقد أنه بلغ من الكبر عتياً، حالته المادية ما يصفونها بالمستورة، والحمد لله، وهذا هو جل طموحه في هذه الدنيا أن يعيش مستوراً ويموت مستوراً كحال الكثيرين.

انتظرته أمام منزله، لم تمضِ دقائق حتى انطلقنا إلى الوجهة التي يريدها، لم أسأله أي سؤال عن الجهة التي يريدها؛ لأن بعض الأسئلة قد لا تكون ذات معنى أو في غير محلها، أنا أعرف صديقي جيداً، فبالتأكيد لن يأخذني إلا لمكان جيد، أثناء سيرنا وتبادلنا الحديث أخبرني أنه يريد الذهاب لشخص من الأعيان، شخص ممن يشار إليهم بالبنان، يعرفه القاصي والداني، شخص ممن فتح الله عليهم في كل شيء، المال والصحة والعقل والمنصب والجاه والزوج والولد، شخص مشهور له بسِمات مميزة في كل أمور حياته وما يحيط بها، هنا أخذ بي الفضول مأخذه وسألته: وما علاقتك بشخصية على النقيض منك تماماً، لم يخبرني بشيء سوى أنه يريدني أن أتعرف على تلك الشخصية عن قرب كما أن لديه حاجة.

أمام بوابة القصر أخبر صديقي موظف الأمن باسمه، وبعدها فتحت الأبواب وبدأت رحلتنا في عالم العجائب، عالم آخر خلاف ذلك العالم الذي نعرفه ونعيشه، بحيرات اصطناعية وشلالات، أشجار من كل بقاع الأرض، ثمار دانية، حيوانات تتمخطر هنا وهناك، تماثيل ومجسمات تزين الساحات، أصوات زقزقة العصافير في كل ركن من الأركان، عند البوابة الداخلية للقصر، تقدم إلينا من يفتح لنا أبواب السيارة وهو منحني وكأننا سلاطين زماننا، اصطحبنا مسؤول الضيافة إلى الداخل، أجلسنا في صالون القصر، أراقب كل ما حولي باستغراب وتعجب، تعجبت أكثر من صديقي الذي أتى بي إلى هنا، ما شأنه وما علاقته بكل هذا، دقائق ودخل علينا صاحب القصر في تواضع بالغ وابتسامة مشرقة، توجه إلى صديقي وأخذه بالأحضان وقبَّل يديه ورأسه، تعجبت أكثر، من يمتلك كل هذا يقبل يد صديقي البسيط ورأسه، إنه لعجب عجاب، قدمني صديقي إليه فرحب بي أيما ترحاب، دعوني أخبركم قبل كل شيء عما رأيت في صاحب القصر، متواضع ودائم الابتسامة، بسيط رغم ما هو فيه، أنيق جداً دون تكلف، وجهه يشع نوراً، أسلوبه في الترحاب يشعرك بالحميمية، صاحب خلق ودين، يظهر عليه علامات كثيرة تدل على ذكائه وفطنته ونبوغه وعلمه وثقافته، بعد أن رحب بي أمسك بيد صديقي وأصر عليه أن يكون مجلسه هناك في صدر المجلس، جلس بقربه وطلب مني الجلوس إلى جوارهم، لا أفهم ما يحدث، أنظر إلى صديقي في تعجب واضح، منتظراً منه تعليلاً أو تفسيراً لما يجري وما يدور.

كان صديقي يتجاذب أطراف الحديث مع تلك الشخصية، أخبره عني وعن كوني صديقه المقرب، أمسك الرجل بيدي مرحباً بي وسعيداً بالتعرف عليَّ، استأذنت منه أن يسمح لي بالحديث فوافق، قلت: كم أنا فخور بالتعرف على شخصية مثلك ولي كل الشرف بالوجود معكم فصحبتكم مكسب، ولكن اسمح لي أن أسألك: ما هي قصة نجاحك؟ وكيف لك القدرة على التعامل مع كل تلك الأمور؟ ضحك وتوردت وجنتاه خجلاً قائلاً: القصة باختصار هي "يحكى أن شخصاً زرع شجرة الحياة في صدر أخيه فأثمرت"، كلنا متشابهون مع أننا مختلفون، نتشابه في أمور كثيرة، فقد خلقنا الله وأغدق علينا من النعم ما لا يعد ولا يحصى، نختلف في طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع معطيات الحياة، فالاختلاف نعمة ومقياس لما نحن عليه، كالآراء المختلفة التي تصل بنا إلى القمة، قصتي بدأت عندما نشأت في أسرة متوسطة، توفي والدي -رحمه الله- وأنا طفل رضيع، تربيت في كنف أخي الأكبر، زرع بداخلي ما سماه شجرة الحياة، نعم شجرة الحياة التي تجعلك تنمو وتكبر وتعطي وتستفيد وتفيد، منذ أن وعيت كنت متأكداً أنني لم أخلق عبثاً في هذه الدنيا، لا شيء يخلقه الله عبثاً، وإن كان الله قد فضلنا على كثير من خلقه، وسخر لنا الأرض وما عليها، فبالتأكيد نحن أفضل ما خلق، هذه هي حكمة الحياة، وهذا هو ما يجعلك تصل إلى أعلى المراتب، قلت له: لكنني لم أفهم بعد، هل تتكرم عليَّ بشرح أوفر، قال: لدي ما لديك من النعم، فنحن نمتلك نفس القلب والعقل والعينين والأطراف والحواس، كل شيء لدينا متشابه، ولكنني مختلف عنك بما أمتلك من مقومات جسمية وفكرية ونفسية، أنا مؤمن جداً بوجود روح الله بداخلي، فقد خلقنا ونفخ فينا من روحه، كم منا يستشعر تلك الهبة وتلك المعجزة التي بداخلنا؟! كم منا علم بذلك وعمل به؟!

روح الله التي بداخل كل منا ليست مقتصرة على شيء، روح الله ليس لها حدود ولا قيود، تستطيع أن تطلقها بلا شروط، روح الله إعجاز قلة من عرفوه، وكنز قلة من ملكوه، روح الله نستطيع بها أن نصل إلى هناك حيث لا يصل إلا من يعرف ويريد، بها نستطيع أن نتقدم ونتطور ونبدع، روح الله تجعلك خليفته في أرضه كما ينبغي، عندما يجعلك الله لشيء، فبالتأكيد سيهيئك لذلك، نحن خلفاء الله، ولكن مَن منا استشعر ذلك حقاً وعمل به؟ كم منا علم أن روح الله بداخله وحافظ على تلك الروح؟ كم منا وكم؟ معظمنا يعيش حياته، وكأن الله قد خلقه من أجل الخلق، البعض يعتقد أن الحياة متاع فقط أو نعيم، اختلفت المعتقدات والمفاهيم، تضاربت الآراء، الكل جعل له طريقاً ومنهاجاً، هذا هو الخطأ الفادح، روح الله بداخلنا تكفينا، هي أساس كل شيء، هي الملاذ وهي السبيل، حافظ على روح الله التي بداخلك ولديك، اعمل عليها وضعها نصب عينيك، طبق ذلك في كل أمور حياتك وانظر إلى عطاء ربك بعد ذلك، ستجد أنك كنت ميتاً وأحياك الله، كم من موتى في هذه الحياة.

كنت أستمع بلهفة لما يقول صاحب القصر، وأفكر في كل كلمة يذكرها، وجدت أنه مصيب بدرجة أدهشتني، نعم نحن لا نعيش كما ينبغي لنا أن نعيش، معظمنا يعيش من أجل أن يتذمر، البعض ممن امتلك المادة يعيش لكي يتكبر، نرى أننا ضعاف، لا نملك شيئاً حتى ذواتنا، نرى أننا لا نقدر على شيء، كل شيء بالنسبة للكثيرين منا محال، نعيش حالة من الضعف والوهن، ونسينا أن روح الله بداخلنا تقوينا وتحمينا، عندما نطلب بالتأكيد من نفخ فينا من روحه سيعطينا، طلب صديقي من صاحب القصر الاستئذان في الانصراف فأذن له، قبَّل رأسه ويديه مرة أخرى، خرجت وأنا أفكر لما لم أستشعر روح الله بداخلي؟ لما لم أتعامل بهذا المبدأ؟ انطلقنا وأنا في حيرة من أمري، صديقي يبتسم ويقول لي: هذا أخي الأصغر زرعت فيه شجرة الحياة فعرف أن روح الله هي من ترعاه، كم منا عاش وعلم أن لا حدود لروح الله التي بداخلنا؟ هذه هي مشكلتنا في الحياة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل