المحتوى الرئيسى

شذرات من سيرة الشيخ يس عمر الإمام "6"

10/31 13:33

من بعد هدأته كامناً لأول بدعة الانقلابات العسكرية في السودان، بدأ التنظيم الإسلامي يرتب صفوفه وتنتظم حركته فاعلة متصاعدة على صعيد الساحة السياسية مهما كانت مناشطه ومنشوراته سرية مبهمة لا تشهرها تواقيع معلومة أو سمة مميزة تحمّل التنظيم تكاليف الملاحقات الأمنية، لكن عودة أحد أبرز القادة الإسلاميين من بعثته العلمية في فرنسا دفعت روحاً جديداً تحيي جذوة الجهاد في أوصال الجماعة، فتشترع لها نهجاً أكثر سعة وانفتاحاً نحو ساحة الوطن الأكبر.

لكن ظهور د. حسن الترابي القادم لفوره من أُوروبا يحمل شهادة دكتوراه الدولة من جامعة السوربون، أرقى جامعات فرنسا عام 1964، هيّأ له سانحة المشاركة في ندوة سياسية بجامعة الخرطوم أثارت مداولاتها أزمة جنوب السودان، وإذ جاء حديث الترابي في سياق الخط العام لخطاب التنظيم لا يقصد منه تعبئة شعبية تهب نحو إسقاط النظام، فقد التقط اتحاد الطلاب في جامعة الخرطوم، بقيادة ربيع حسن أحمد، من بعد تجميد نشاط الاتحاد واعتقال حافظ الشيخ ومجموعته، التقط حديث الترابي في الندوة، ومضى يصعّد الاحتجاجات الطلابية استجابة لدعوة الترابي بالعمل من أجل تمام تغيير الحكم العسكري الشمولي المركزي، مدخلاً لحل أزمة إقليم جنوب السودان مما صعّد في الجامعة وتيرة العمل السياسي المناهض للحكم العسكري، وإذ تعبّأت السلطة بعنف مضاد تحاول قمع ثورة الطلاب وكبت حراكهم فقد تداعت تلك الوقائع جميعاً حتى أدت إلى أول ثورة شعبية في العصر الحديث (21 أكتوبر/تشرين الأول 1964( تقتلع أول نظام حكم عسكري شمولي في السودان.

فور نجاح ثورة الشعب في أكتوبر 1964، بدأت نشاطات كثيفة تنتظم ساحة تنظيم الإخوان المسلمين، وهو يتهيأ لمرحلة تنفسح فيها الحريات ويتسع المدى لنشاط الأحزاب السياسية، فما كاد الشهر يكتمل على سقوط النظام العسكري حتى تأسست "جبهة الميثاق الإسلامي" التي ضمت أطيافاً من فعاليات في المجتمع السوداني توحد تصوراتهم ورؤاهم الإسلامية في السياسة والحكم وتؤلفهم في جبهة واحدة، هكذا نشأت جبهة الميثاق التي بادر الإخوان المسلمين فدعوا وجمعوا إليها أفذاذاً من شيوخ الطرق الصوفية، وقيادات أنصار السنة المحمدية، ووجوه المجتمع، لكن غالب أمرها يبرم بليل داخل كواليس التنظيم الإخواني المستسرّ يومئذٍ بكامل أمره داخل سراديب شديدة الحذر والكتمان، بينما تعمل الجبهة بوجوه قيادتها ونظمها ومناشطها في العلن.

اضطلع يس عمر الإمام بدور فاعل في مشروع تأسيس جبهة الميثاق الإسلامي ودعمها، إذ كان ضمن المكتب القائد للجبهة في وجوه من الإخوان المسلمين في السودان من أمثال: حسن الترابي، ومحمد محمد صادق الكاروري، ومحمد صالح عمر، وجعفر شيخ إدريس.

ومضى يس عمر مع الإخوان يوالي اتصالاته بشيوخ الطرق الصوفية وقيادات المجتمع السوداني، هذا سوى حركته الدائبة في الطواف المتصل إلى غالب أقاليم السودان يصل إلى نجعه وصقعه ويطوف بمدنه وقراه الأبعد نحو الأرياف والأطراف يخاطب جماهيرها من خلال الندوات العامة والمحاضرات يبشر ببرامج جبهة الميثاق ورؤاها في السياسة، وأكثر ما يذكر الشيخ الترابي أنهم خلال تحركاتهم لتأسيس وتدعيم جبهة الميثاق الإسلامي كانا هو والشيخ يس عمر الإمام يطوفان غالب أقاليم السودان، يصلان إلى المناطق الأبعد، وربما ذهبا بسيارة واحدة يتبادلان قيادتها على طول الطريق.

أتاحت تجربة جبهة الميثاق لقادة الإخوان المسلمين سانحة طيبة مكنتهم من خوض غمار الانتخابات التي أعقبت ثورة أكتوبر في السودان؛ ليختبروا من ثم وقع حركتهم وتأثيرها متحالفة مع إخوتهم في دعوة الإسلام العامة، لكن اختبار الحركة لمدى تمثيلها في تلك العملية كان يتقاصر فيما سوى دوائر الخريجين، فأعداد الذين خاضوا منافسات النيابة لم تصل إلا إلى عشرة من أعضاء التنظيم، تساقط جميعهم في أعقاب كسب تلك الجولة سوى الأمين العام الذي اشتهر اسمه نجماً لامعاً لما قام به من دور في إشعال ثورة الشعب التي أسقطت النظام العسكري في أكتوبر، ولم يرافقه نائباً إلى البرلمان إلا واحد من الخريجين واثنان من قائمة الإخوان في الدوائر الشعبية.

فقد أكملت جبهة الميثاق قائمة مرشحيها بيس عمر وشقيقه عوض عمر، ولكن سقط كلاهما ضمن أعضاء المجموعة، في حين فاز من تلك القائمة الشيخ الترابي فوزاً باهراً يرافقه آخر إلى أول تجربة برلمانية للإخوان.

لكن مهما كانت مكاسب الحركة ضئيلة في تلك الانتخابات لا تتجاوز بضعة مقاعد في برلمان الشعب، أربعةً منها منافسة وفوزاً، واثنان انضماماً إليهم، إلا أن بسطة الحريات العامة التي جاءت من ثمرات أكتوبر والنظام الديمقراطي الخالف لها أتاحت مجالاً للنشاط الأوسع للحركة عبر الندوات العامة، بل طرقت مجالاً آخر في الإعلام، فأصدرت صحيفتها "الميثاق"؛ ليبرز يس عمر الإمام في ميدان جديد رائداً للإسلاميين في العمل الصحفي والإعلامي، نشطاً في أعمال تحرير صحيفة الميثاق وكاتباً راتباً على صفحاتها.

كذلك استثمرت الحركة المساحة الواسعة من حرية العمل السياسي في بناء قواعدها الجماهيرية حتى تقلّص الفارق القائم بتقدم الحزب الشيوعي الذي كان يسبقها بكسبه في قواعد العمال والطلاب، لكن واقعة حل الحزب الشيوعي في عام 1969 أهدت الحركة تفوقاً جعلها في موقع متميز لم تكن تنتظره؛ إذ ما لبث أن اتخذ المكتب القائد للحركة قراراً يؤيد المضي نحو دعم قرار عاجل بحل الحزب الشيوعي، بينما نشط فاعلون من عضوية الحركة اشتهروا بإتقان أعمال التعبئة والتحشيد الجماهيري في تأجيج الاحتجاجات المناوئة للحزب الشيوعي بدواعي الخطيئة التي قارفها أحد منسوبيه ذكر بيت النبي الشريف، ونجحوا في إخراج الجماعات السلفية والطرق الصوفية يصفُّون مواكبها أمام مقر رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري الذي لم يجد بُداً من تأييد مطالبهم بحل الحزب الشيوعي وإخراجه من برلمان الشعب الذي أحاطت به تلك الجماهير، وتداعى النواب للاستجابة بتعديل للدستور يحظر الحزب الشيوعي الذي لا يؤمن بالديمقراطية النيابية، وحل تنظيمه القائم، وإخراج النواب باسمه من البرلمان.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل