المحتوى الرئيسى

عثمان عبد الحليم يكتب: السودان.. المارد المقيد | ساسة بوست

10/30 14:05

منذ 1 دقيقة، 30 أكتوبر,2016

(أنا واثق من أن السودان لديه القدرة على أن يكون محركًا لأفريقيا بين الآخرين. فهو البلد الأكبر في القارة. وفيه إمكانيات هائلة ارتباطًا بزراعته وموارده المائية ونفطه. ولكن قوة السودان العظمى تكمن في شعبه. فهم أناس يتميزون بالتدريب العالي والقدرات. ويجري الطلب على المهندسين المحامين السودانيين في دول الخليج ويعتبر موسيقيوها وكتابها مصدر إلهام لمناطق في أفريقيا بأسرها. وقبل كل شيء يمتلك السودان القدرة على أن يقدم مثالًا ليس لأفريقيا فحسب، وإنما للعالم العربي. فهو بلد يمتزج فيه العرب والأفارقة. إن مجموعاته العرقية الـ572 قد عرفوا أنفسهم على الدوام باعتبارهم سودانيين. كما أنه بلد تمتزج فيه الأديان، حيث الوثنيون والمسلمون والمسيحيون عرفوا دائمًا كيف يهذبون التسامح. وأخيرًا فإنه بلد عرف الديمقراطية.

من هنا فبوسع السودان، ومن موقعه بين العالمين العربي والأفريقي وبين الإسلام والمسيحية، أن يصبح مختبرًا للتعايش والتسامح بما يمكن لتطبيع الديمقراطية).

لم أجد أجمل من هذه الكلمات لأبدأ بها مقالي. وهي فقرة من مقال كتبه خافيير سولانا في صحيفة الشرق الأوسط في العام 2005 وهو المسؤول الأعلى للأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي وقتذاك.

السودان الدولة التي اشتهرت عالميًّا بلقب سلة غذاء العالم هي في الحقيقة دولة لم تستفد من الهبات الربانية والموارد الطبيعية التي أهلتها لحمل هذا اللقب الكبير الذي رغم حملها له فهي دولة تستورد الآن القمح وكثيرًا من المنتجات الزراعية من حبوب وخضر وفاكهة من دول هي أقل منها من حيث المؤهلات الزراعية من أراض خصبة ومياه وغيرها.

فالسودان دولة تملك مساحة شاسعة من الأراضي الخصبة التي تصلح لزراعة أغلب المحاصيل في العالم قدرت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في عام 1998م، بحوالي 16,900,000 هكتار (41.8 مليون فدان) منها حوالي 1.9 مليون هكتار (4.7 مليون فدان) من الأراضي المروية، خاصة على ضفاف نهر النيل والأنهار الأخرى في شمال البلاد.

هذا وهو بلد تهطل فيه مائتا مليار متر مكعب من الأمطار سنويًا ما يجعله أرضًا خصبة للزراعة والرعي لما تنتجه هذه الأمطار من حشائش للرعي وغابات على مساحات كبيرة.

السودان يمتلك منذ العام 1925 أكبر مشروع ري زراعي في أفريقيا بمساحة مليوني فدان وهو مشروع الجزيرة الذي يعتبر كذلك أكبر مشروع ري زراعي بإدارة واحدة في العالم.

إمكانيات زراعية على الورق تفوق كل إمكانيات الدول التي تبرز في مجال الزراعة عالميًا الآن.

إضافة إلى الزراعة فالسودان يمتلك ثروة حيوانية تقدر بـ50 مليونًا من الدواجن و150 مليون رأس من الماشية أي أربعة أضعاف ما تملكه هولندا التي تستورد منها السودان الألبان المجففة حاليًا والأجبان ومنتجات حيوانية كثيرة.

الألبان السودانية على حسب ما يذكر المسؤولون هناك، تراق على الأرض لعدم وجود مصانع وعدم توفر سبل ووسائل تصنيع مشتقات الألبان منها.

السودان كذلك يعتبر الدولة الأولى عالميًا في إنتاج الصمغ العربي بإنتاجية كانت تناهز 80% من الإنتاج العالمي، وهي كذلك الدولة الثالثة عالميًا في إنتاج محصول السمسم بعد الهند والصين.

كما يعتبر أكبر منتجي السكر في أفريقيا حيث يمتلك ستة مصانع سكر من بينها المصنع الأكبر في أفريقيا وهو مصنع سكر النيل الأبيض.

وبالإضافة للإمكانيات الزراعية فإن السودان كذلك لديه كنز كبير من الذهب تم اكتشافه مؤخرًا في باطن الأرض، مما قد يجعل السودان في مصاف الدول الأولى عالميًا في مجال إنتاج واستخراج الذهب حسب التوقعات. هذا كله بجانب البترول الذي رغم ذهاب ما يقارب ثلثي احتياطيه مع ذهاب الجنوب وانفصاله، إلا أنه يعتبر موردًا اقتصاديًا هامًا للسودان.

ولكن رغم هذه الطاقات الزراعية والحيوانية والمعدنية والبترولية الكامنة للسودان، فإن استغلالها لا يزال دون المستوى وأقل من القدر الذي يمكن أن يترجم هذه المؤهلات من أرقام على الورق إلى تنمية اقتصادية محسوسة ونهضة ملموسة لهذه الدولة التي يصفها الخبراء بأنها الأكثر قدرة في محيطها الأفريقي والعربي للنهوض والتقدم والصعود إلى مصاف الدول العظمى اقتصاديًا وسياسيًا.

والسؤال الذي يحاول المقال الإجابة عليه هو: لماذا لا ينهض السودان وهو بكل هذه المؤهلات الاقتصادية والزراعية والبشرية؟!

عوامل كثيرة أدت بالسودان لهذا السقوط الكبير في امتحان التوقعات وجعلته من النماذج المريعة التي تعيش سوء الواقع رغم سمو التوقع. نحاول في ما تبقى من المقال أن نحلل هذه العوامل لإيجاد إجابة على السؤال المحير الذي طرحناه.

أولًا: مشروع حكومة الإنقاذ برئاسة البشير

لما يقارب ثلاثين عامًا يستمر السودان رهينة لمشروع ثورة الإنقاذ الوطني، وهو الاسم الذي أطلقه عمر البشير ورفاقه على انقلابهم الذي استولى على السلطة في العام 1989. هذه الحكومة أحاطت نفسها في بدايتها بصخب عارم من الشعارات الإسلامية نظرًا لخلفيتها وعراب حركتها الشيخ الإسلامي حسن عبد الله الترابي، وهذا ما جر تجاهها كثيرًا من مخاوف الغرب خصوصًا أمريكا التي كانت تخشى تكرر النموذج الإيراني في الحكم العقدي والأيديولوجي وهذه المخاوف ترجمها الغرب لا شك في شكل مضايقات سياسية واقتصادية تهدف استباقًا إلى تقويض هذه الحكومة التي كما تدعي حسب شعاراتها أنها إسلامية، والغرب كما نعلم كان قد بدأت تسري فيه أعراض الإسلاموفوبيا بصورة واضحة. هنا لا يهمنا ما عانته هذه الحكومة وما جرته على نفسها من مخاوف ومضايقات وإنما تم ذكر مشروع ثورة الإنقاذ الوطني في العوامل التي تقوض السودان وتحد من نهضته لأن استمرار مشروع ما بغض النظر عن توهجه وتوجهه لمدة تقارب ثلاثين عامًا لهو بلا شك عامل قد يؤدي إلى مثل ما آل إليه السودان. فلربما لو تغيرت الحكومة لشهد السودان تغيرًا وتجديدًا في الرؤى والأفكار والمشاريع فيما يخص التوجهات الاقتصادية والسياسية.

ثلاثون عامًا مدة طويلة بدون شك. فهي مدة قامت فيها دول من الصفر وشهدت فيها دول أخرى نهضتها كماليزيا وسنغافورة وغيرها.

إذًا فالأعوام الثلاثون للإنقاذ هي أحد العوامل التي قيدت المارد السوداني ومنعته من الانطلاق وجعلت السودان حبيسًا لفكر اقتصادي وسياسي واحد ردحًا من الزمان.

كما ذكرنا في النقطة الأولى فإن انطلاق مشروع ثورة الإنقاذ بقيادة الترابي والبشير مصحوبًا بشعارات إسلامية تحمل شيئًا من المعاني العدائية تجاه الغرب وخصوصًا أمريكا جعل هذه الأخيرة تضع السودان في قوائمها السوداء، ولأن أمريكا لا تكلف نفسها عناء التأكد من جدية الشعارات ومطلقها إن كان صادقًا أو جادًا فيها أم لا فإنها بدأت مباشرة في مناصبة الحكومة الجديدة العداء وفرضت عليها حصارًا اقتصاديًا ووضعتها في قوائم الدول الداعمة للإرهاب.

الحكومة السودانية مارست برعونة سياسات وتصرفات جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تتحسس الخطر منها وسوغت لها محاربتها ومناهضتها، فبالإضافة إلى الشعارات العدائية فإن الحكومة السودانية استضافت على أراضيها وقربت إليها الشيخ أسامة بن لادن الذي مكث في الخرطوم من العام 1990 وحتى 1996 بعد أن جاءها مضطرًا إثر خلافات مع الحكومة السعودية نتيجة لمشاركته في حرب أفغانستان وخوفًا من تأثيره على شبابها هناك.

استضافت الخرطوم بن لادن رغم أنه نشط خلالها في مجال الاستثمارات خصوصًا في المقاولات والطرق والزراعة، إلا أنه كان من بين الأسباب التي زادت وأكدت مخاوف أمريكا تجاه السودان إلى أن وصلت بالإضافة لفرض الحصار الاقتصادي الخانق لدرجة ضرب الطائرات الأمريكية لموقع في الخرطوم كان فيه مصنع شهير للأدوية اشتبهت أمريكا في نشاطه في مجال تصنيع الأسلحة.

ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة عن إجمالي الخسائر التي تعرض لها السودان من جراء العقوبات، فإن مصادر سودانية قدرّت إجمالي الخسائر بنحو 500 مليار دولار. وتقدّر الخسائر غير المباشرة التي يتكبدها السودان من جراء العقوبات بأربعة مليارات دولار سنويًا.

وتشمل العقوبات الأمريكية حظر كل أنواع التعامل التجاري والمالي مع السودان. كما خرج القطاع المصرفي السوداني من المنظومة المالية العالمية بسبب العقوبات التي تشمل أيضًا منع تصدير التكنولوجيا والحجز على الأصول السودانية.

ثالثًا: حرب الجنوب ثم انفصاله

السودان عانى منذ استقلاله تقريبًا من حرب أهلية بين شماله وجنوبه استنزفت كثيرًا من موراده المادية والبشرية، ورغم أن السودانيين نجحوا في العام 2005 في إنهاء هذه الحرب التي تعد ضمن الأطول في القرن باتفاقية سلام في نيفاشا الكينية، إلا أن الاتفاق كان يتضمن إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير بالبقاء ضمن السودان أو الانفصال بدولة جديدة. والذي حدث أن الجنوبيين صوتوا لصالح انفصالهم بدولتهم الوليدة وهو ما شكل زلزالًا مدمرًا للاقتصاد السوداني الذي كان يعتمد بصورة شبه كلية على النفط والذي ذهب ثلثاه مع ذهاب أراضي الجنوب.

السودان قبل انفصال الجنوب كان يعيش فترة انتعاش اقتصادي كبير رفع من قيمة عملته وأعلى من تصنيفه وجعله قبلة للاستثمار العالمي، لينقلب الحال رأسًا على عقب بعد الانفصال حيث فقد السودان 46٪ من إيرادات الخزينة العامة و80٪ من عائدات النقد الأجنبي فتدهور الاقتصاد تدهورًا مريعًا، وتدنت قيمة العملة وزادت نسبة التضخم لمستويات غير مسبوقة وبصورة تشبه الانهيار الجليدي التتابعي، ليكون انفصال الجنوب كارثة كبيرة وتأثيرها المدمر على الاقتصاد السوداني لا يقل عن تأثير كارثة الحرب التي دارت قبله. وليصبح الانفصال أحد العوامل التي قوضت اقتصاد السودان وزادت من تدهوره وأقعدته عن نهضة مأمولة.

رابعًا: المعارضة السودانية وحرب دارفور

لنكن أكثر شفافية فإننا بحاجة لطرح سؤال صريح؛ من يقوض السودان الداخل أم الخارج؛ بنوه أم أعداؤه؟!

السودان عانى بلا شك من مؤامرات وعقوبات خارجية أدت لتحجيم قدراته وإقعاد عزمه في التطور والاستفادة من موراده النادرة، ولكنه أيضًا عانى داخليًا من حكومة – كما ذكرنا – فشلت في مخاطبة الغرب بالحنكة والحكمة المطلوبة فصدرت خطابًا عدائيًا أساء لسمعتها وجعلها في مرمى سهام الغرب رغم وجود دول كثيرة غيرها أكثر منها إسلامية بدأت مشاريعها بدون شعارات جالبة للخطر، وهي في الوقت ذاته لم تتخل عن هويتها الإسلامية كماليزيا مثلًا أو تركيا.

وبنفس القدر أيضًا عانى السودان داخليًا من معارضة لا تضع في أولوياتها الوطن أو القضايا الوطنية وإنما تعمل بنسخة مطابقة لما تنتقده في الحكومة. المعارضة السودانية المسلحة أشعلت بمساعدة من الحكومة وبرعونة من الطرفين حربًا في دارفور في العام 2003 والسودان بدأ يتعافى حينها من حرب الجنوب. حرب دارفور قادها أمراء حرب يقيمون في أرقى الفنادق الأوروبية ويتلقون الدعم العسكري بأغلى المعدات من جهات خارجية لم يكن من مصلحتها نهاية حرب الجنوب التي كانت تؤدي غرضها بإضعاف السودان ومنعه من الاستفادة من موارده في التنمية المدنية والنمو الاقتصادي.

نعني بالفساد الحكومي هنا شقين وهما: الفساد الإداري والفساد المالي.

من صور الفساد الإدراي هو إهمال السودان للزراعة وتوجهه بكلياته للاعتماد على النفط الذي بدأ إنتاجه في العام 1999م وهو ما أدى بعد انفصال الجنوب إلى دخول السودان في أزمة اقتصادية كبيرة.

كان يمكن للسودان أن يوظف موارده الزراعية المتمثلة في مشروع الجزيرة أكبر مشروع ري بإدارة واحدة في العالم وأراضيه الخصبة الشاسعة ونيله وأمطاره الوفيرة وثروته الحيوانية التي تساوي أربعة أضعاف ما تملكه هولندا؛ كان بإمكانه أن يبني اقتصادًا قويًا لا يتأثر بالنفط أو بغيره يمكنه من جلب العملة الأجنبية سواء بتصدير المحاصيل أو المنتجات الزراعية أو الحيوانية أو مشتقات الألبان وغيرها، ولكن سوء إدارة السودان لموارده أدى لما آل إليه الوضع الآن.

أهم أخبار اقتصاد

Comments

عاجل