المحتوى الرئيسى

الإعلام «الصادق» .. الذي تحدث عنه الرئيس

10/30 08:06

نريد إعلاما «صادقا».. هكذا قال الرئيس.. 

ونحن «صادقون» نتفق مع ما «قاله» الرئيس.. 

فلماذا إذن لا يكون الإعلام صادقا؟

«الكلام» والسؤال يستدعي بدوره إيضاحات وتعريفات.. وأسئلة

نريد إعلاما «صادقا».. هكذا سمعنا الرئيس يقول في جلسة، عن الإعلام «والصحافة»، لم يدع إليها نقيب «الصحفيين»(!)

نريد إعلاما «صادقا». قال الرئيس. ولا أحسب أن هناك من يختلف على ذلك. ولكن ماذا نقصد، ويقصد الرئيس «بالإعلام الصادق»؟ أحسب أن هذا هو السؤال الأهم لكي نضع كلام الرئيس في سياقه. وأحسب أن علينا أولا أن نتفق على «التعريف»، مما يستلزم بالتالي أن نتوقف أولا لنسأل: هل ما نسمعه ونقرأه في هذا الشكل من الإعلام، (الذي نعرف جميعا كيف ولماذا صارت له الهيمنة «منفردا» على ساعات الإرسال وعقول الناس) إعلاما صادقا؟

هل كان الإعلام مثلا صادقا حين حاول إقناعنا بأن البحرية المصرية أسرت قائد الأسطول السادس الأمريكي؟ أو أن الطائرة الروسية جرى تفجيرها بقنبلة وضعت في مطار تركي؟ أو أن الإخوان هم الذين أسقطوا الاتحاد السوفييتي. وأضاعوا الأندلس(!)

هل كان الإعلام «الموجه» صادقا أو مهنيا حين حاول أن يبيع للناس وهم الجهاز السحري لعلاج الإيدز وفيروس سي؟

هل كان الإعلام «صادقا» حين نقل عن مسئولين رسميين أن حصيلة مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي وصلت إلى «١٧٥ مليار دولار» (الأهرام ١٦ مارس ٢٠١٥)؟ وهل كان صادقا فيما نقله عن مسئولين «رسميين» أيضا عن ارتفاع إيرادات قناة السويس (بالمخالفة لبيانات «رسمية» للبنك المركزي المصري)؟

هل كان الإعلام صادقا حين قال لنا قبل عام كامل (أكتوبر ٢٠١٥) أن حسن مالك يخفي في بيته «نصف مليار دولار»، وأنه كان السبب في ارتفاع سعر العملة الخضراء؟ ألم يكن الأكثر «صدقا» أن ينبه الإعلام أصحاب القرار إلى الأسباب الأكثر منطقية، وإلى السياسات والقرارات التي يعرف الاقتصاديون ما فعلته باحتياطي العملات الصعبة مما أدى في النهاية إلى ما صرنا إليه؟

هل كان الإعلام صادقا حين زف إلينا «نقلا عن أجهزة الدولة» بشرى التخلص (قتلا) مما قالوا إنها العصابة التي قتلت الباحث الإيطالي جوليو ريجيني؟ وهل يتحمل الإعلام في هذه الحال مسئولية كذب التصريحات «الرسمية».

هل يمكن للإعلام أن يكون «صادقا»، إذا صمت حين طلب منه «ألا يتحدث ثانية» في مسألة هي من صميم الأمن القومي لهذا البلد، ولأجياله القادمة. فيمتنع عن التذكير بحقيقة أن كل ما يمكن إسرائيل من أن تصبح لها اليد الطولى في المنطقة لن يكون أبدا في صالح «الأمن القومي» المصري. وأن فقدان السيادة «نظريا» على مضايق تيران (بغض النظر عن المعاهدات الحالية، أكرر: «الحالية»، وعن الأسباب والمبررات والوثائق، فضلا عن اعتبارات الأخوة العزيزة المقدرة) يحتاج، من زاوية الأمن القومي (الذي هو أمن الأشقاء أيضا) إعادة نظر.

هل كان الإعلام صادقا حين زيف «بسذاجة مفضوحة» تغريدة لرجل بقامة «محمد البرادعي» بهدف تشويه صورته واغتياله معنويا؟ (لمن نسي، فالرجل، تتفق أو تختلف معه كان أحد أركان ٣٠ يونيو، وكان نائبا لرئيس الجمهورية بعد الثالث من يوليو).

هل كان الإعلام صادقا حين حاول أن يبيع للبسطاء النظرية «الرسمية» للمؤامرة على مصر. فلا يتحرج من الحديث «الاستراتيجي» عن «مجلس لإدارة العالم»، يخطط لما يجري في مصر، بما فيها الكوارث الطبيعية. وينسب لدمية تلفزيونية توجيه رسائل بالشفرة إلى مرتكبي الجرائم الإرهابية؟

هل كان الإعلام «صادقا» حين لا يكف «محللوه الاستراتيجيون» عن الترويج لمؤامرة غربية على مصر، تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، في حين لا يكف الرئيس عن لقاء المسئولين الأمريكيين (بمن فيهم مدير المخابرات المركزية الأمريكية)، ولا يكف متحدثه الرسمي عن التأكيد على العلاقات «الاستراتيجية» الراسخة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي حين تبيع فرنسا «الغربية» الميسترال، وطائرات الرافال إلى مصر.

باختصار.. هل كان الإعلام صادقا حين كان أداة «استراتيجية» لغسل الأدمغة، وللقيام بأكبر عملية تزييف وعي في التاريخ؟

ثم، قبل ذلك وبعده، هل كان «صادقا» حين عمد «قاصدا» إلى تخوين كل صوت «مختلف»؟

يبقى أن ما ذكر عاليه ليس أكثر من أمثلة / أسئلة لا تكتمل إجاباتها إلا إذا عرفنا، (ونحن نعرف) تضاريس الخريطة الإعلامية. وإلا إذا تذكرنا، (ونحن نذكر) من بقي على الشاشة؟ ومن رحل أو أجبر على الرحيل عنها؟

الحاصل أنه كما أسأنا إلى الدين بتسييسه، عرفنا «تسييس الإعلام» بمعنى استخدامه كأداة للبروباجندا السياسية، لا لإخبار الناس بالحقيقة، كما يستلزم «الصدق»، وكما هي وظيفته «الحقيقية».. هناك من فعل ذلك قبل الثلاثين من يونيو وبعده، لا أستثني أحدا. ولكن الدولة بحكم أنها الدولة، وبحكم ما يعرفه أهل المهنة تتحمل المسئولية الأولى. إذ لم تعد تخفي عن أحد «تضاريس الخريطة».

نريد إعلاما «صادقا»؟ هكذا سمعنا، ومع هذا نتفق. ولكن هل تريد الدولة حقا من الإعلام أن يكون صادقا؟

ألم يكن الإعلام صادقا حين عرض هموم الناس، على لسان «سائق توك توك» أو ربة منزل .. فكانت النتيجة أن «ذهب» المذيع إلى إجازة؟

ألم يكن الإعلام مهنيا يوم نشر تحقيقا عن «جهات سيادية لا تدفع ضرائب موظفيها» (الوطن: ١١ مارس ٢٠١٥)، فكانت النتيجة بدلا من تأكيد أو نفي «موثق» لما نشرته الصحيفة أن صدرت التعليمات بوقف طباعتها حتى جرى حذف التحقيق؟

ألم يكن ضابط القوات المسلحة السابق مهندس يحيى حسين عبدالهادي «صادقا» في مقالاته التي مُنع بعضها من النشر في الأهرام، (أو لم يرد عليها أحد) لأنها تتحدث عن مخالفات دستورية «رئاسية»، أو تنتقد التعديلات القانونية التي اعتبرها، ومعه كثيرون تفتح الباب واسعا للفساد والفاسدين؟

ثم.. هل يمكن أن يكون الإعلام صادقا، مهما حاول حسنو النية في غياب قانون «عصري» لتداول المعلومات، وفي ظل ثقافة للحجب المعلوماتي تنتمي إلى زمن «ممنوع الاقتراب والتصوير»، غير مدركة إلى أننا صرنا في زمن Google Earth؟

نريد إعلاما «صادقا»، كما يقول الرئيس. ونحن نتفق مع ما «قاله» الرئيس.

ولكن، هل من الممكن أن يكون إعلام الصوت الواحد إعلاما صادقا؟

أرجو أن يكون هناك من يقرأ في التاريخ فيحكي للرئيس حكاية «البرافدا»؛ الجريدة السوفييتية الشهيرة.

«برافدا» بالروسية تعني الحقيقة. وهي كانت في حينه رمزا لإعلام الصوت الواحد. فهل كانت «برافدا / الحقيقة» تقول الحقيقة؟

الكل يعرف الآن الإجابة. ومن، مخدرا بالشعارات لم يعترف بها في حينه، أفاقته بالضرورة ضربات المعاول تهدم سور برلين في مثل تلك الأيام من خريف ١٩٨٩ إعلانا عن انهيار تجربة / إمبراطورية الاتحاد السوفييتي الشمولية، أو بالأحرى إعلانا عن «الحقيقة» التي أخفتها «البرافدا» لما يقرب من نصف عمرها الذي وصل إلى ثمانية عقود، وهي ببساطة أن الأفكار العظيمة (مثل أفكار كارل ماركس) تتبخر حتما على أرض الواقع الساخنة، حين يظن النظام الحاكم أنه وحده يملك «الحقيقة». إذ ساعتها، يفسح النقد اللازم مكانه للدعاية الكاذبة، فلا يدرك المسئولون أخطاءهم. ومع انتفاء حرية التعبير تختفي الشفافية، فينتعش الفساد، ورويدا رويدا، وفي ظل مانشتات البرافدا البراقة «المتفائلة»، ينمو عفن الأوليجاركيا متمكنا من مفاصل النظام، الذي كداود (عليه السلام) لا يشعر أهله بموته إلا ودابة الأرض قد أكلت منسأته.

نعود إلى السؤال: هل من الممكن أن يكون إعلام الصوت الواحد (الذي تحبه هذه النوعية من النظم) إعلاما صادقا؟

الإجابة عرفها العالم «قاطعة» حين انهار الاتحاد السوفييتي رغم كل ما كانت تشيعه جريدته «الحقيقة / البرافدا» من تفاؤل.

والإجابة عرفناها نحن «مؤلمة» مرتين:

الأولى في التاسع من يونيو ١٩٦٧ حين اكتشف عبدالناصر أنه «مثلنا» لم يكن يعرف «الحقيقة»، فخرج علينا، شجاعا يصارحنا بالهزيمة، رغم إعلامه المخدر المتفائل الذي كان يستقي أخباره عن إسقاطنا لطائرات العدو، وعن اقترابنا من تل أبيب من البيانات «الرسمية» للقوات المسلحة.

وعرفناها ثانية حين سقطت عاصمة الرشيد في التاسع من أبريل ٢٠٠٣ رغم كل سخرية سعيد الصحاف من «العلوج» الذين سيتجرعون العلقم.

السؤال إذن، بحكم تجارب التاريخ القريب ضروري ومُلح: هل من الممكن أن يكون إعلام الصوت الواحد، الذي جربناه، وجربه غيرنا إعلاما «صادقا»، كما يرجو الرئيس؟

قد يبدو السؤال نظريا، ولكنه يصبح مقلقا ومؤرقا حين ندرك ما نعرفه جميعا ونخفيه جميعا من خطوات «ناجحة» تستهدف سيطرة الدولة (أو قل احتكارها مهما تعددت اللافتات) على مفاصل الإعلام في مصر. فهل هناك حقا من يبحث عن إعلام صادق(!)

يبقى على الهامش، ومما يستدعيه ما نسمعه ونقرأه يوميا هذه الأيام أننا نتفق طبعا مع الرئيس في أن إعلاما يتماهي مع ما يظنه سياسة دولة، فيتطاول على رموز هذه الدولة «الشقيقة» أو تلك يتسبب قطعا «كما قال الرئيس» في مشكلات كنا في غنى عنها. ولكن، هل كان ذلك ليحدث لولا ما استقر في الأذهان هنا وهناك من أن إعلام هذه الدولة أو تلك لا يتمتع باستقلال «حقيقي»، وبالتالي فخطابه محسوب على الدولة. وإلا فقولوا لي بربكم. هل سمعتم يوما عن أزمة بين فرنسا وألمانيا على سبيل المثال بسبب مقال أو مانشيت لجريدة ألمانية أو فرنسية؟

في العالم الذي يعرف معنى استقلال الصحافة، وحيث لا يحتاجون إلى السفر إلى شرم الشيخ لإعادة اختراع العجلة، لا نسمع عن شيء من ذلك. بل يعرف المتابعون أن الصحف الفرنسية عندما نشرت صورا «عارية الصدر» لدوقة كمبريدج (زوجة ولي العهد البريطاني القادم) لم تحدث ثمة أزمة بين البلدين (رغم حرب المائة عام)، بل اقتصر الأمر على دعوى قضائية رفعها الزوجان البريطانيان على مصور «الباباراتزي» والصحيفة الفرنسية، لا أكثر ولا أقل. ففي تلك المجتمعات لن نسمع أبدا مثل ما نسمعه في عالمنا العربي من تضرر العلاقات بسبب «الحملات الإعلامية»، كما لا تعرف البرقيات الدبلوماسية عبارات من قبيل «المطالبة بإيقاف تلك الحملات». لماذا؟ لأن هذا ببساطة معنى أن يكون الإعلام «مستقلا».

«نريد إعلاما صادقا».. هكذا يقول الرئيس. بل ربما هكذا يقول كل رئيس. ولكن هل تريد الدولة «حقا» إعلاما صادقا؟

قد يكون من المثير أن صدامي (العلني) مع الإخوان حول الدور الواجب للإعلام، كان أنهم يريدونه تنمويا توعويا يقف وراء الدولة، ويعمل على بناء المواطن الصالح (بالضبط كما أسمع الآن ــ لا فارق) وكنت أذكرهم يومها بمثل ما يبدو أننا للأسف بحاجة إلى التذكير به الآن من أن دور الإعلام هو الإخبار بالحقيقة، أيا ما كانت هذه الحقيقة. دور الإعلام، كما تعلمنا في الكتب، ومن تجارب مجتمعات تقدمت أن «يكشف» ما تحاول القوى الحاكمة أن تخفيه. فيتمكن الناس (أصحاب البلد) أن يحاسبوا ويسائلوا. وهذا، على سبيل المثال ما فعله «الصحفي» سيمور هيرش عندما فضح جرائم الجيش الأمريكي في فيتنام، فكانت تحقيقاته أحد أسباب نهاية الحرب. كما كان هذا ما فعله أيضا عندما كشف في «النيويوركر» العريقة عن فظائع سجن أبوغريب العراقي، فأحيل الجنود المسئولون إلى المحاكمة. كما أن هذا ما كان قد فعله أيضا «صحفيا الواشنطن بوست» بوب وودوارد ومايكل برنشتاين عندما فضحا جريمة تجسس حزب الرئيس على معارضيه (فضيحة ووترجيت). فأُرغم الرئيس (ريتشارد نيكسون) على الاستقالة.

أما في عالمنا البعيد عن هذا كله، فقد كان أن جربنا أو حاولنا بعد الخامس والعشرين من يناير شيئا من هذا الإعلام «الصادق» بتحرره من سيطرة هذا أو ذاك، قبل أن تمتد الأصابع في الظلام فتجهض التجربة كلها. ويكون الإعلام «الكاذب» للأسف أحد أدوات الإجهاض، كما تقول تفاصيل القصة التي ما عادت تخفي على أحد.

أذكر أن الأستاذ هيكل كان ينبهني، كلما انتقدت أمامه ما يراه المصريون على الشاشات، إلى «أن الإعلام ابن مجتمعه». وأظن أن هذا صحيح تماما: فالإعلام في التحليل النهائي هو ابن مجتمعه، والأهم أنه ابن نظامه السياسي. كما قرأنا ونقرأ في تجارب العالم حولنا. حين يكون النظام استبداديا أحاديا، يكون لدينا إعلاما دعائيا أحاديا. أما في حالة النظام الصحي الذي يقوم على التعددية واحترام الرأي الآخر. ويدرك قيمة الإعلام المهني الذي يسأل ويحاسب، يصبح لدينا إعلاما مهنيا صحيا. أو بلغة السيد الرئيس، يصبح لدينا «إعلاما صادقا».

إذا أردنا «الصدق» الذي تحدث عنه الرئيس، فعلينا صادقين أن نعترف بأن الإعلام «الموجه» الذي جربناه على مدى عامين أو ثلاثة نجح أولا في غسل عقول الناس. ونجح ثانيا في تشويه كل ما هو جميل. ونجح ثالثا في أن يفقد مصداقيته، وأن ينصرف عنه «الشباب»؛ الذين عقدنا لهم مؤتمرا في شرم الشيخ. وأخشى (وأرجو أن أكون مخطئا) أن هناك من استهدف كل ذلك ليصبح في النهاية من السهل إصدار قرارات تقيد حرية الرأي والتعبير، أو تسعى لتقييد مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى إغلاقها. غير مدرك أننا جميعا من سيدفع الثمن. بل وستكون «الدولة» كما قلت قبل ذلك أكثر من مرة «أول الخاسرين». إذ من نافلة القول أنه لا يوجد دولة قوية بلا حكم رشيد، ولا يوجد حكم رشيد بلا شفافية ومحاسبة. ولا يوجد شفافية ومحاسبة بلا إعلام حر يكشف ما يحاول الفاسدون إخفاءه. أو ينبه «من يظنون أنهم يحسنون صنعا» إلى عاقبة ما يصنعون. ساعتها فقط سيكون الإعلام «صادقا» كما يطلب الرئيس.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل