المحتوى الرئيسى

فنّ... مع رشّة من الجنون!

10/29 00:57

لا تجوز الكتابة عن ملحم بركات، الفنان الراحل، إن لم تعرفه شخصياً. تنقص الكتابة شيئاً كثيراً، وعمقاً كثيراً، إذا كانت عن اسمه وشهرته ونجوميته وصوته وألحانه فحسب. كل هذا كان في كفّة وشخصيته كانت في كفة أخرى، مكمّلة تماماً. شخصية هذا الرجل حمّالة أوجه، هادئة تماماً، عاصفة تماماً. مثقفة تماماً، أُميّة تماماً. وبقدر ما نجح في الدخول إلى البيوت والصالونات والمسارح والنوادي الليلية ووسائل الإعلام، بالقدر نفسه دخل إلى مراكز الدراسات الموسيقية والكونسرفتوار. وكما كان في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين فارساً فنياً صاحب صوت بديع وصاحب ألحان بديعة وصاحب حضور بديع ونوعية أغان بديعة، كان كذلك بالنسبة إلى بقية العالم العربي الذي لم يكن يميل إليه، ولا سيما بعد تصاريحه النارية ضد المغنين اللبنانيين الذين يغنون باللهجة المصرية أو الخليجية لكنه (العالم العربي) لم يتهاون في يوم من الأيام مع موهبته، بل مواهبه. مات اليوم ملحم بركات. أخذ معه سر شخصيته الفنية التي كانت محببة ولطيفة جعلته يستسهل أي كلمات وأي جمل لحنية لتقديمها في أغانٍ، إلى جانب أغانٍ أخرى عميقة وثاقبة وقوية. وكان الجمهور يقبل. يقبل ويردد. يقبل ويردد ويفرض بملحم بركات نموذجه الفني الأبرز.

لم يعترف ملحم بركات يوماً بفضل أحد عليه. أحياناً كان يذكر الملحن فيلمون وهبي. أحياناً كان يذكر الأخوين رحباني ثم كان ينساهما أحياناً أخرى. كأنه كان يريد القول انه، فنياً، مقطوع من شجرة.. سحرية لا علاقة لها بما سبق. مع أن الدراسة الجدية لصوت ملحم بركات، وألحان ملحم بركات، وشخصية ملحم بركات تقول إنه من مقلع فني وغنائي ولحني لبناني مطعّم بنكهة مصرية: فولكلور لبناني على موسيقى عصرية مصرية، أي مزيج من وديع الصافي والرحباني وفيلمون وهبي وسيد درويش وفريد الأطرش. هذا هو الوصف الأقرب إلى ملحم بركات. أما إذا أضفت ملامح شخصيته الخاصة ومواقفه وتصرفاته فلا بأس في إضافة رشّة من الجنون!

لحّن بركات أغاني شعبية كثيرة، أغانيَ من النوع الذي يسري في الآذان سريان النار في الهشيم. وأعتقد أن هذا الوصف خُلق لفن ملحم بركات الذي ما إن كنت تسمح له أغنية حتى تصبح على كل شفة ولسان. جُمل لحنية خفيفة، إيقاعية، فولكلورية، تواكبها في آن واحد جُمل لحنية ثقيلة، رومنسية. ولعلّه الملحن والمغني الوحيد الذي كان إذا قدّم أغنية شعبية أدخل فيها نفساً كلاسيكياً: السرعة والتأني في ضبط إيقاع الجمل اللحنية والموسيقية، وهذه صناعة ملحم بركات، واستعادة أي أغنية من أغانيه، أكرر: أي أغنية من أغانيه، سوف تقود المراقب إلى الحقيقة المذكورة.. سرعةٌ وتأن ورغبة في الاستحواذ على إعجاب الجمهور المتعدد الأهواء.. فمن تكن أهواؤه راقصة يجتذبه بركات في الإيقاع السريع، أو الإيقاع الفولكلوري، أما من تكن أهواؤه طربية فيأخذه بركات بالإيقاع البطيء. والإيقاعان حاضران في الأغنية الواحدة التي كان يرفض من يقول له إنها لا تحتفظ بوحدة المضمون أو وحدة المزاج.

على أن الملاحظة الأبرز التي يمكن إيرادها في تجربة ملحم بركات الغنائية واللحنية هي أنه استطاع أن يعاصر أجيالاً ويبقى حاضراً ومطلوباً. وكلمة مطلوب نشدد عليها لأن الحفلات التي كان يُدعى إليها لم تتوقف يوماً رغم تقدمه في العمر. وملحم، لا يدري إلا قلة، أنه ولج باب السبعين بشوطين أو أكثر. في اللحن حافظ على تجدده، وبالصوت حافظ على مرونته، وبنوعية الأغاني ذهب شعبياً إيقاعياً إلى آخره، وذهب كلاسيكياً ورومنسياً إلى آخره. ومات.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل