المحتوى الرئيسى

الهروب من الدولة الأبوية | المصري اليوم

10/28 21:29

ما الذى يدفع أعدادا كبيرة من البشر إلى ركوب قوارب هشة للهروب من بلاد لا تسودها الحروب الأهلية مثل مصر؟ هل هو فقط الفقر المدقع؟ تردد هذا السؤال مرة أخرى فى ذهنى بعد متابعة بعض الأفلام التسجيلية على قنوات غربية، والتى سردت بالتفصيل رحلات هؤلاء حتى وصولهم. والرد كان: ليس فقط الفقر المدقع.

فرغم الصعوبات التى يتعرض لها الهاربون على متن قوارب غير صالحة للملاحة، ورغم المعاملة القاسية التى يتعرضون لها خلال رحلة مخيفة، يبدون فى حالة صحية جيدة عند الوصول، وملابسهم وطريقة تصرفاتهم تدل على أنهم ينتمون فى الكثير من الأحيان لما يمكن تسميته «الطبقة الوسطى»، بمعايير العالم الثالث على الأقل.. بل إن بعضهم يتكلم الإنجليزية بطلاقة.

الفئات الأفقر ليست لديها الإمكانيات المادية لدفع ثمن الرحلة، وليست لديها أيضا الإمكانيات المعنوية والفكرية المطلوبة.. فالمجازفة بالحياة فى سبيل الوصول إلى مجتمع غريب، يبعد آلاف الأميال، تتطلب تصورا لطبيعة الحياة فيه والتطلع إليها، تصورا ينبع عن علاقة ما بهذه النوعية من المجتمعات، سواء عن طريق قصص الأقارب أو الأصدقاء أو المتابعة عبر الإعلام أو غيرها من صور التواصل، التى لن تكون متاحة بسهولة لمَن هو معزول تماما عنها فى قرية نائية مثلا، أو منشغل بالكامل فى محاولة تفادى الجوع وليس لديه بال للتطلع إلى حياة مختلفة فى مجتمعات متقدمة تقنيا، غريبة بالكامل عن نمط حياته.

إذن يبدو أن تطلعات أهل القوارب فى الكثير من الأحيان تعكس آمال طبقة وسطى بمعايير عالمنا الثالث، ربما الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى، لكنها طبقة وسطى فى النهاية. ما هذه الآمال، إن لم يكن الجوع هو الدافع.. ماذا إذن؟

من السهل الكلام عن غياب الديمقراطية والحرية كسبب أساسى. لكن بأى معنى بالضبط يبحث هؤلاء عن الحرية، وما علاقة هذا البحث بالعنصر الآخر، الذى لا يمكن إنكار أهميته (رغم إلغاء عنصر الجوع)، وهو البحث عن حياة كريمة من الناحية المادية؟ الذى يجازف بحياته على قارب هش متجه شمالا يعرف جيدا أنه لن تكون له حقوق المواطنة هناك، أو حتى الإقامة الشرعية، ناهيك عن حق المشاركة السياسية أو انتخاب مَن يمثله ديمقراطيا. ما تطلعاته إذن؟

يبدو لى أن جوهر المسألة، بكل بساطة، يتعلق بأن المهاجر يعرف أن «النظام» فى هذه الدول «هيسيبه فى حاله»، ومن ثَمَّ ستُتاح له فرصة وحرية تحقيق ذاته فى أمان حسب قدراته.. وقد قالها بعض مَن نجوا من حادث الشهر الماضى، لكن كلامهم لا يُحترم عادة فى مجتمعنا، فعلى مستوى معين، كل إنسان يريد اختبار مقدرته.. وإذا شعر أن لديه من الموهبة أو العزيمة والقدرة على العمل ما يؤهله لوضع أفضل، وأن «النظام» يعوق تطلعاته، فسيبحث تلقائيا عن البديل.. ليس لأنه يرجو الحرية بمعنى مجرد، لكن لأنه يريد أن يحقق نفسه. وهو يعرف فطريا أن هناك دولاً تحترم استقلالية الفرد وتَدَعه «يجرب حظه فى الحياة»، دون إعاقة مستمرة لتحركاته وتطلعاته، سواء بحسن أو سوء نية.

لنأخذ مثالا بسيطا. عندما غرق قارب المهاجرين المنكوب بالقرب من السواحل المصرية فى الشهر الماضى، تردد تكرارا أنه كان بإمكان الضحايا على الأقل «فتح كشك سجاير» بالمبالغ التى دفعوها للمُهرِّبين. لكن لم يلاحظ أحد تقريبا أنه حتى عملية «فتح كشك» قد تكون مُرهِقة جدا: من أول الحصول على التراخيص المطلوبة، إلى مضايقات مستمرة من قِبَل أجهزة الحى، وربما من وزارة التموين، ومن قِبَل أمناء شرطة يطلبون أتاوات... إلخ، بل إن بقاء الكشك ذاته مُهدَّد فى أى وقت، واللجوء للقضاء لاسترداد الممتلكات مضيعة للوقت، والسكوت أفضل سبيل لتفادى مزيد من الإهانة فى مثل هذه الحالات.. وهذا الكلام لا ينطبق على صاحب الكشك فقط، إنما حتى، تحت ظروف معينة، على أكبر رجال الأعمال.

فى المقابل، يعرف المهاجر أنه يمكنه أن يعيش سنوات طويلة فى أوروبا، ربما يصنع خلالها حياة كريمة بمعايير العالم الثالث، دون أن تكتشف الدولة- حتى- أنه قائم فيها بصفة غير شرعية، لأنها لا تفتش عن الناس وتراقبهم وتتنصت عليهم- سواء بغرض الإيذاء أو من منطلق «أبوى». ويعرف أيضا أنه إذا تم كشف أمره فى النهاية، فلن يتعرض لنوع القسوة الذى يعرفه فى بلد المنشأ، إلا ربما قسوة ترحيله له.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل