المحتوى الرئيسى

أكاديمية المُفكّر الحرّ؟

10/27 00:04

يُفترض أن الجامعة رافد أساسيّ من روافد الثقافة والمعرفة والفكر والسجال الحرّ. عليك أن تشتغل في إحدى الجامعات العربية لمعرفة الحال الذي وصلت إليه الثقافة بين أروقتها. في بعض بلدان المغرب يُتّبع نظام قصير الأجل يسمّي «أمد» وهو اختصار لـ (إجازة، ماجستير، دكتوراه). يَفترض النظام أن الطالب قد تكوّن بشكل متكامل صارم في الابتدائية والإعدادية والثانوية، قبل إعطائه حصصاً تكميلية تسمح له بالحصول على شهادة عليا. النتيجة كارثة بما للكلمة من ظلال، ذلك أن التكوين في المراحل الأولى هشّ ومريب، وذلك أن «الثقافة العامة» الضرورية لنظام كهذا، في مجمل مفاصل التعليم، تبدو في أدنى مستوياتها على الإطلاق.

في مرحلة لاحقة نلتقي بفساد ثقافيّ مختبئ تحت غطاء جامعيّ، وهو متماثل حرفياً في جميع الجامعات العربية، بهذا النظام وبسواه، ويتمثل بالإجراءات «الشكلانية الخالصة»، في قبول الدراسات العليا، ومن ثم القبول في الوظائف الجامعية وفق معايير أكاديمية أكثر شكلانية، وأطاريح تغيب عنها المعارف العميقة والخلاصات الدالة الذكية. وهنا أسوأ أنواع الفساد الثقافيّ وأخطرها. لو أشار لنا أحد بسلسلة من الأطاريح ذات النتائج المغايرة للبداهات، المُفارِقة للسهل الجاهز، لألقمنا حجرا (دون شك، هناك استثناءات غير فاعلة ثقافياً).

في مرحلة تالية ثمة إشكال ثقافي آخر: فمن المعروف أن التأهيل الجامعي (بالفرنسية Habilitation) هي مرحلة دراسية لاحقة للماجستير والدكتوراه. لا يحتاج أمر الخوض فيها أن تكون موظفاً أو أستاذاً أو مُدرّساً يعمل في الجامعة، لكي تتقدم للحصول على إحدى تلك الشهادات، فحيازتها لا تمنحك آلياً أية وظيفة، ناهيك أنها لا تمنح أية صفة (ثقافية عالية). في العالم العربي (شهادة التأهيل) المذكورة مُكرّسة فقط للعاملين في القطاع الجامعيّ أنفسهم. ولا يسمح لسواهم بالترشُّح لها، حتى من المتعاقدين الأجانب. لماذا؟ لا يوجد عُرف أو قانون لذلك سوى مساواة (الدراسية الأكاديمية) المعرفية بـ (الوظيفة) اللذين لا علاقة بينهما في الواقع حتى قانونياً. الإدارة والوظيفة في الجامعة العربية أهمّ عملياً من منطق المعرفة والثقافة والتأهيل الأكاديمي الرفيع.

ما هي قواعد اللعبة في الجامعة العربية من زاوية معرفية وثقافية؟ إنتاج حملة ألقاب، وليس حملة ثقافة. من هنا هذه السخرية المتواصلة في جميع الوسائط من حرف (الدال) الشهير، عن حق غالباً.

يبدو أن هناك ضرورة لتغيير قواعد اللعبة. فإذا كانت الجامعات في العالم تُنتج معرفة فاعلة في المجتمعات، فهي في الجامعة العربية تُنتج، بشكل متواتر - إلا في حالات قليلة مُشرّفة - الجهل والتسميات البرّاقة والخرافات «المعرفية». هل يتوجّب إعادة تأسيس الجامعة العربية وفق شروط مغايرة جذرياً؟ وما معنى التأسيس؟ الأُسّ هو أصل البناء، وأصل كل شيء. والتأسيس هو بيان حدود الدار، ورفع قواعدها، وبناء أصلها، وفق المعاجم. فهل لمفاهيم العرب اليوم على أصعدة كثيرة، من أُسّ، وهل وقع تأسيسها: بيان حدودها وبناء قواعدها؟ وهل لأصل مفهومها للتأسيس من قيمة في الفكر والسياسة والثقافة والحياة اليومية والخطاب الجامعيّ؟ تدمير الثقافة يمرّ عبر تدهور الجامعات العربية، وخاصةً عبر شيوع علاقات ذات طابع إداريّ بارد بين المُشْتغلين والمُشَغَّلِين فيها. في مشرق العالم العربيّ ومغربه على حدّ سواء، ألا ترى التشابُه، نفسه تقريباً، في المستويات العلمية والعلاقات الإنسانية في المشرق والمغرب، مع أفضلية نسبية لجامعات المغرب.

وهناك في النهاية المشكل الأخطر: سيطرة الدولة وأيديولوجيتها على النشاط الثقافيّ الجامعيّ الذي يُفترض أنه طليق السجال، حرّ الرأي، ويأمل الجميع منه إنتاج (مُفكّر حُرّ)، حتى بالمعنى المتواضع للتعبير.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل