المحتوى الرئيسى

الحرية ليست مكفولة للجميع

10/26 19:11

«وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين والتى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوافر فلذلك، تحفظ الأوراق إدارياً».

المؤلف المشار إليه فى هذه السطور هو عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين والذى تمر ذكراه الثالثة و الأربعون هذه الأيام، والكتاب المقصود هو كتاب «فى الشعر الجاهلى»، والذى صدر منذ أكثر من تسعين عاماً، أما هذه السطور فقد كانت قرار النيابة للقاضى المستنير محمد نور، تلك القضية التى شغلت الرأى العام زمناً طويلاً وأحدثت دوياً هائلاً فى جميع أنحاء البلاد، واهتز لها البرلمان ومجلس الوزراء وجميع الأوساط العلمية والثقافية.

جاءت تفاصيل هذه القضية فى الكتاب الذى قدمه الكاتب والروائى الكبير خيرى شلبى «محاكمة طه حسين»، والذى فند فيه لقرار النائب العام محمد نور، بعد القضية بأكثر من عشرين عاماً عندما عثر خيرى ـوحسبما يذكر فى مقدمة الكتابـ على كتيب صغير مطبوع على ورق أصفر زهيد الثمن، كتب على غلافه المهلهل.. قرار النيابة فى الشعر الجاهلى.. ممهوراً باسم محمد نور. 

ويحكى شلبى فى كتابه أن القضية بدأت فى 30 مايو 1926 حيث تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر ببلاغ لسعادة النائب العموم يتهم فيه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنه ألف كتاباً سماه «فى الشعر الجاهلى» ونشره على الجمهور، وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى الكريم… وكان ممكن أن يحفظ البلاغ ولا يلقى اهتماماً مذكوراً لولا أن شيخ الجامع الأزهر أرسل خطاباً للنائب العام فى 5 يونيو يبلغه بتقرير رفعه علماء الأزهر عن ذات الكتاب، ثم تتابعت البلاغات وقد ركزت فى مجملها على تكفير طه حسين وحساسية موقفه كأستاذ جامعى له على طلابه سيطرة وإجلال، وبالتالى لابد من إبعاده عن هذا الموقع بالتحديد، ثم تجريده من جميع الشهادات العلمية التى حصل عليها ولو كانت زوجته السيدة سوزان طه حسين مصرية مسلمة لرفعوا الأمر إلى المحكمة مطالبين بتطليقها منه.

على كل حال ليست هناك غرابة فى الأمر فهذا هو ما حدث منذ قرابة القرن ويحدث اليوم وسوف يحدث غداً، فقد حدث بعدها بأكثر من خمسين عاماً مع الدكتور فرج فودة الذى اغتيل على يد الجهلاء، وكذلك الدكتور نصر حامد أبو زيد عن كتابه الأشهر «مفهوم النص»، الذى أهدروا دمه وفرقوا بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، مما اضطره إلى الهجرة، ومثلما ما زال يحدث كل يوم، فالكاتب كرم صابر حكم عليه بالحبس خمس سنوات فى كتابه «أين الله»، وكذلك الكاتب أحمد ناجى الذى حكم عليه بالحبس عامين فى نص نشر له فى جريدة قومية، و غيرهم كثيرون، أظنهم جميعاً كانوا فى حاجة لقاضٍ مثقف مثل القاضى محمد نور.

ويشير شلبى فى كتابه إلى مدى ثقافة الرجل -النائب العام- فقد كان ملماً بقضايا عصره الثقافية والفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية، ولشلبى كل الحق فى رأيه فى النائب محمد نور، خاصة عندما نقرأ التحقيقات كاملة، ونرى كيف صيغت الأسئلة؟ حتى إجابات الدكتور طه حسين فقد كانت واضحة وصريحة، ويمكن لأى قاضٍ أن يؤولها كيفما شاء، فمثلاً يقول طه حسين فى موضع من التحقيقات: «نعم يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربى وتاريخه أن ننسى عواطفنا القومية وكل مشخصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكل ما يتصل بها، يجب ألا نتقيد بشىء ولا نذعن لشىء إلا مناهج البحث العلمى الصحيح.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل