المحتوى الرئيسى

أصدقاء وصديقات

10/25 22:07

تحكى القصة القصيرة المنشورة فى مجلة نيو يوركر الأمريكية حكاية طفلة اشترى أهلها لها سمكة صغيرة تسبح فى وعاء زجاجى. ذات ليلة جلست الأم والأب يتسامران أمام المدفأة فى صالون منزلهما بعد أن أدى الأب آخر واجباته العائلية، وهو واجب زيارة طفلتهما فى غرفتها ووضعها فى فراشها وضبط الأغطية من فوقها وحولها والاستجابة إلى طلبها الاستماع إلى حدوتة تختلف عن حدوتة الأمس. ينتهى الواجب الجميل بقبلة على جبين الطفلة التى كعادتها نامت قبل أن تعرف آخرة الحدوتة. بدأت الزوجة حلقات السمر بحلقة خفيفة تبادلا فى بدايتها أنخاب الوصول إلى نهاية يوم عمل طويل، ثم انتقلا بالسمر إلى التهنئة على حظهما إنجاب ابنة رائعة. راح الأب يطنب فى ذكر محاسن الطفلة فهى لا تبكى كثيرا كالأطفال، وهى غالبا مبتسمة. تحب الناس وبخاصة الأطفال من عمرها تلعب معهم وتتبادل معهم لعبها. لم تقاطعه الأم.

تواصلت حلقات السمر حتى ساعة متأخرة. عندها صدرت عن الزوجة إشارات تعنى بالوضوح اللازم نيتها وقف السمر. بدت وقد اكتسى وجهها بقلق لا تبرره تفاصيل ومتع السهرة. استدارت وقالت لزوجها إنها لم تشأ مقاطعته وهو يتحدث بكل الإعجاب والحب عن ابنتهما ولكنها فى حقيقة الأمر غير مطمئنة لحالها، وانفجرت تشكو. الطفلة لم تعد ترغب فى مغادرة غرفتها، تجلس طول اليوم أمام الوعاء الزجاجى حيث تسبح سمكتها الملونة، أدعوها للخروج معى إلى السوق أو إلى الساحة التى خصصتها البلدية للعائلات ولعب الأطفال فترفض أو تقبل مترددة. دائما تستعجل عودتنا إلى البيت، وما إن أفتح الباب إلا وأراها تركض نحو غرفتها. قلل الزوج من شأن هواجس زوجته ووعدها بأن يجد لابنته وقتا أطول يقضيه معها، ولم يفته أن يدعوها قبل النوم لأحضانه تستعيد فيها الاطمئنان وراحة البال.

ذات صباح باكر، بعد مرور أيام على هذه السهرة، استيقظ الزوج على يد زوجته تربت على كتفه ليراها وقد اصفر وجهها وتهدج صوتها وهى تنقل إليه نبأ وفاة، أو نفوق، السمكة. قفز من الفراش وانطلق ركضا فى اتجاه غرفة نوم ابنته وفورا نحو الوعاء الزجاجى ليخرج به من الغرفة. هناك فى الغرفة الصغيرة الملحقة بجراج البيت جلسا يتدبران الأمر. هما لم يتحدثا من قبل فى وجود ابنتهما عن الموت وهو لم يدخله فى حواديته اليومية قبل النوم. ثم إنهما كانا فى واقع الأمر شديدى الحرص على أن يجنباها مشاعر الفقد إن اختفى شىء من أشيائها أو فقد. انتهى تفكيرهما إلى ما يفعله الأهل وينهون عن فعله فى آن. قررا أن يستخدما حقهما فى اللجوء إلى الكذبة البيضاء. استبعدا فكرة إحلال سمكة أخرى بعد أن أكدت الأم أن الخدعة لن تنطلى عليها لأن ابنتها تكاد من فرط مراقبتها لسمكتها تكون قد حفظت عن ظهر قلب عدد زعانفها ولون كل زعنفة وعرفت أسلوبها فى العوم والألعاب التى تقوم بها فى الماء اعتقادا منها أن السمكة تقوم بهذه الألعاب من أجل تسليتها. استبعدا أيضا فكرة الزعم بأن السمكة مرضت فأخذاها إلى مستشفى الأسماك على وعد بإعادتها فور اتمام شفائها. خافا أن تطلب منهما اصطحابها لتزورها هناك. ترددا طويلا ولكن ما إن دخلت عليهما الطفلة تسأل عن سمكتها ووعائها الزجاجى إلا وكانت الحقيقة على طرف لسان كل منهما تزاحم الكذب الأبيض وبالفعل كان الفوز للحقيقة.

عاد الأب من محل بيع الحيوانات الأليفة والطيور والأسماك الملونة يحمل الوعاء الزجاجى وبداخله سمكة تسبح. قالت الزوجة عندما وقعت عيناها على السمكة إنها نسخة تتطابق نوعا وحجما وألوانا مع السمكة التى ماتت. حملت بنفسها الوعاء الزجاجى إلى غرفة طفلتها ووضعته فى نفس مكانه. حاولت أثناء خروجها من الغرفة لفت انتباه ابنتها إلى وجود السمكة فلم تحظ بأكثر من ابتسامة حمد وشكر عادت بعدها إلى عرائسها ودببها. استمر هذا الحال أياما دأب خلالها الأب والأم على التلصص متوقعين تغيرا فى علاقة الطفلة بسمكتها الجديدة. وفى اليوم السابع عاد الأب من غرفة ابنته فور الانتهاء من سرد حدوتة الليلة ليطلب من زوجته ترك ما بيدها والإنصات إليه باهتمام.

قال لقد سمعت للتو من ابنتى عجبا. ما إن انتهيت من حدوتة الليلة حتى اقتربت بفمها من أذنى وفى عينها دمعة ترفض أن تنزل إلى خدها، همست قائلة إنها حزينة لأنها تعودت أن تتكلم مع سمكتها السابقة بالساعات الطوال. كانت يا أبى تعرف كل أسرارى. حكيت لها عن حواديتك وهداياك وعن حب أمى وتدليلها لى. كنت أشكو لها إصرارك أن تحملنى إلى فراشى بينما أرى أمى تعد المكان لسهرة أمام المدفأة. كم شكوت لها أفعال لعبى واختفاءها عنى فى أماكن لا أستطيع الوصول إليها. أسررت إليها بكرهى لصحن الخضراوات المهروسة التى يجبروننى على تناولها ظهيرة كل يوم. حاولت يا أبى أن أقيم علاقة مع السمكة الجديدة ولم أفلح. هى لا تفهمنى. لاحظت أننى كلما اقتربت من وعائها لأتكلم معها هربت إلى داخل القلعة المنصوبة وسط الوعاء، تطل من شباك فيها فإن تأكدت من انصرافى خرجت إلى اليم الفسيح. يا أبتى، السمكة الأولى كانت صديقتى وحاملة أسرارى. هذه السمكة لن تكون.

رن هاتفى الذكى ثلاث مرات تفصل بين المرة والمرة ثوان وكان اليوم يوما من أيام عيد الأضحى الفائت. شىء فى صدرى تحرك. رفعت الهاتف بأصابع مرتعشة وقلت نعم بصوت متهدج. كان حدسى صادقا. جاء الصوت من الناحية الأخرى أيضا متهدجا فقد تذكرت. كان الرنين المتقطع ثلاث مرات إشارة بيننا على أن الطريق خال لنتبادل كأصدقاء الأسرار بحرية وفى اطمئنان. يا ألله، ما أحلاكم أيها الأصدقاء والصديقات، ما أحلاكم الآن وما أحلاك يا من اتصلت بعد مرور ستين عاما بالضبط على آخر اتصال بيننا.

Comments

عاجل