المحتوى الرئيسى

إسراء عرفات تكتب: المبدع.. ما بين الانتماء للمكان والحاجة إلى التواجد خارجه | ساسة بوست

10/25 18:02

منذ 6 دقائق، 25 أكتوبر,2016

في متابعتي للمقابلة الأخيرة التي أُجريت مع إدوارد سعيد وتمت ترجمتها ونشرها على اليوتيوب مؤخرًا لفتتني إجابة سعيد على سؤال سأله له محاوره عن مراحل الانفصال الكثيرة التي مرّ بها في حياته سواء على صعيد الأمكنة أو المعتقدات والمذاهب، وجاء سؤال المحاور لإدوارد يقول: «بَعد كلّ هذا الانسلاخ الذي مررت به، حيثُ لم تعد تنتمي لذلك النوع من المذاهب التقليدية، الأرثوذكسية، وأنتَ تركتَ هذا المذهب لذا فقد انفصلت عنه، وسَبق أن فُصِلت عن فلسطين عام 1948، وفُصلت عن القاهرة وعن كامل عائلتك عام 1951، إلى أين اتجهت من أجل كسب العيش والدعم في هذا العالم الغريب والجديد؟ أعلم أنّ الناس في الشرق الأوسط بالتحديد لا ينظرون لأنفسهم كأفراد بل كأجزاء من شيء ما».

وقد أجابَ إدوارد على السؤال بقوله: «لم أكن كذلك، لم أعتقد أنني جزء من كلّ أكبر، لذا فقد كنتُ أطوّر في أغلب الوقت شعورًا بالاستقلالية خارج هويتي الأساسية، فبينما كنتُ أتقدم في العمر أصبحتُ بروفسورًا ومفكرًا وما إلى ذلك، لكن لطالما امتلكتُ حياة أخرى وهي التي مكنتني من إقامة صلات مع الناس».

وإنّ هذا الجزء من المحاورة جعلني أتأمّل في الدافع الذي جعل مُحاور إدوارد يعتقد بأنّ الأشخاص في الشرق الأوسط لا ينظرون لأنفسهم كأشخاص بل كأجزاء من شيء ما، وبعدَ تأمّل طويل قمتُ بردّ ذلك إلى افتراض أنّ المحاور مطلِّع على نمط الأطر المفهومية السائدة في مجتمعات الشرق الأوسط والتي ترتبط ببنى معرفية تختلف من ثقافة إلى أخرى.

وبناءً على ذلك، وبأخذ الكلّ والجزء باعتباره الأساس الذي قام عليه هذا الجزء من الحوار، فيُمكن القول بأنّ افتراض المحاور ذاك لم يكن عبثيًا، بل انبثق من اطِّلاع جيد على الأطر المفهومية السائدة في الشرق الأوسط والتي تختلف تفسيراتها في الشرق عما هو سائد في الغرب.

وأحد أهم هذه المفاهيم والذي ترتبط تفسيراته ومعانيه بالكلّ والجزء هو مفهوم «الاندماج»، فتفسير مفهوم الاندماج في الشرق يختلف عما هو في الغرب؛ فعندما نقوم بتأصيل هذا المفهوم تأصيلًا لغويًا في اللغات الغربية المعتمدة في الوقت الحاضر نتبين أنّه مبني على فعل Integrare الذي يعني، باللاتينية، استَكْمَلَ، بما يدلّ على أنّ مصطلح Integration يعني بالأصل التكامل والعودة بالجزء إلى الكلّ باعتباره جزءًا لا يتجزّأ منه[1].

والترجمة في اللغة العربية لهذا المصطلح مختلفة، حيثُ يُرَدّ هذا المصطلح في الترجمة العربية إلى الفعل دَمَجَ الذي يعني أُدخِلَ في الشيء واستحكَم،َ وهذا الخطأ في الترجمة ليسَ خطًا عابرًا ولا يُمكن النظر إليه بعيدًا عن معطيات الفضاء المعرفي العربي الذي انطلق منها المترجم، والتي يغلب عليها – ضِمنًا- تفضيل عدم اعتبار الكلّ وحدةً قابلة للتجزئة، بحيث يأتي الاندماج هنا كدخول خارجي في الشيء، لا كجزء أصيل منه، كما في المفهوم الغربي، ويرِد كعنصر براني قدم من الخارج كدخيل، وهو الأمر الذي يترتب عليه أن تغدو عملية الدمج عملية مصطنعة[2].

لكن ما علاقة حوار إدوارد سعيد باعتباره ناقدًا ومُبدعًا مع مفهوم الاندماج كما يرد في تعريفه الغربي؟ وما دلالات إجابته تلكَ بالنسبة لحيثيات العقلية التي يجب أن يتمتع ويتسّم بها المبدع؟

وبمقتضيات الإجابة على ذلك، يُمكن القول بأنّ أهمّ سمة يجب أن يتمتع بها المبدع ويُمكن الاستدلال عليها بالتأمّل في إجابة إدوارد سعيد التالية – لم أعتقد أنني جزء من كلّ أكبر، لذا فقد كنتُ أطوّر في أغلب الوقت شعورًا بالاستقلالية خارج هويتي الأساسية- هيَ الاستقلالية والقدرة على تطوير مفاهيمه الخاصة، وإنّ هذه الإجابة تعكس بالضرورة اعتناق سعيد لمفهوم الاندماج كما هو سائدًا في تفسيره الغربي، حيثُ الأصل في المجتمع هو الاندماج المبني على التكامل، والمجتمع التكاملي هو المجتمع الذي يؤمن باستقلالية الأفراد الذين يعيشون فيه ويسمح لهم أن يتجاوزوا كلّ التأطيرات المفروضة عليهم المقيّدة لهم التي تمنعهم من حرية الفكر والرأي والانتماء.

وإنّ سعيد كناقد ومبدع قد طوّر مفهومًا للانتماء يتناسب مع طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا بالطبع يختلف عما هوَ سائد في مجتمعاتنا العربية، فمجتمعاتنا العربية في الأساس مجتمعات عصابية تنبذ دعاوى التكامل ولا تُحبّه، وترى أنّ الأصالة هي أن تبقى النماذج العصبانية الموروثة القائمة على وحدات صغرى منغلقة – مثل القبيلة والعشيرة والحزب والطائفة غيرها- على حالها بعيدًا عن أية محاولة لإدخال عناصر جديدة إلى هذه الوحدات الصغرى، وهذا ما يُفسّر الفشل الذريع الذي يطول كلّ محاولة جديدة للانتقال بهذه المجتمعات من مجتمعات عصابية تقوم على الولاء للمكونات الجماعية إلى تكاملية تقوم على المواطنة وتنتصر لاستقلالية الفرد وحريته في بناء ولاءاته وانتماءاته في شكلها العموميّ الأكبر.

إذن، وإذا كان إدوارد سعيد كأنموذج للفرد المبدع أوّلًا والناقد ثانيًا طوّر مفاهيم خاصة بالانتماء تتناسب مع البنية المعرفية للمجتمع الذي يعيش فيه أكّد فيها على استقلاليته الهوياتية والفكرية، وهو ما جعله قادرًا على التعايش مع بيئاته الجديدة مهما تعددت واختلف فيها الآخر عنه في الفكر والرؤية؛ فإنّ هذه المهمة بالنسبة للمبدع الذي يعيش في المجتمعات العربية هي من الصعوبة بمكان، فلكي يبني الأخير استقلاليته الفكرية والهوياتية التي تجعل منه مفكّرًا وناقدًا لمجتمعه ومجتمعات غيره عليه أن يتجاوز كلّ البنية المعرفية العُصابية التي تشكّل عليها وعيه منذ البداية، وعليه أن يُطوّر مفاهيمه الخاصة حول التكامل والاندماج، وعندها فقط يستطيع أن يؤدي دوره جيدًا كمنتمٍ للمكان يؤدي دوره النقدي والتنويري فيه كأنّه خارجه.

[1]  فريدريك معتوق، العصبيات: آكلة الحريات السياسية، مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد17، المجلد5، 2016، ص65.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل