فكرة فرعونية وملامح قبطية لفن روماني.. "بورتريهات" الفيوم الفن "وَجْه" الخلود
في قصيدته الشهيرة "جدارية" كتب الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت أغاني الرافدين
بعض الفنون تستطيع أن توقف الزمن وتهزم الموت وترسم الخلود علي خشب، بما يسمح للبشر الذين يعيشون في الحاضر، وربما سيجيئون في المستقبل، بإلقاء نظرة خاطفة على الماضي الذي فر من كمائن الموت . فالفن علمنا كيف بدأ أجدادنا حياتهم، وكيف عاشوها، كيف أحبوا وكيف عانوا وكيف أبدعوا.
هذه البورتريهات المعروفة باسم بورتيهات الفيوم نموذج عملي على معنى الخلود، فقد عاشت بعد رحيل أصحابها بحوالي ٢٠٠ سنة وصار لها حياتها الخاصة التي عرف فيها الناس على مر الزمن ذلك الفن القديم الذي يسمى panel painting أو الحفر على الخشب، الذي رسم وجوهاً فمنحها الحياة أو جعلها تبدو حيّة لدرجة لا تصدق.
تعود تلك الألواح الفنية الخشبية إلى القرن الأول قبل الميلاد وتظهر عليها صور واقعية بشكل مذهل لوجوهٍ قديمة من العصر القبطي. وبعض مؤرخي الفن يعتبرون هذه اللوحات النموذج الأول لفن البورتريه الحديث الذي يرسم فيه الفنان الوجوه بما يعبر بدقة عن الشخصية.
كانت لوحات الفيوم تعلق على المومياوات المحنطة، وتغطي مكان وجوه الأجساد التي أعدت للدفن. وقد تم فصل نحو ٩٠٠ من بورتريهات الفيوم من المومياوات لتعرض في متاحف العالم المختلفة، ومنها ٢٩ فقط موجودة في المتحف المصري بالقاهرة. وقد تم اكتشاف معظمها في مقبرة الفيوم - (ومن هنا جاء الاسم الشائع لها)- في حالة سليمة بسبب المناخ الحار والجاف في هذه المنطقة جنوب القاهرة.
حيث جاء اكتشاف تلك البورتريهات في منطقة هوارة التابعة الفيوم، ومنطقة الروبيات بطامية، على يد العالم الإنكليزي وليم فيلندرز بتري عام 1888.
لوحة من أواخر القرن الأول للميلاد ، "والترز للفنون"، موجودة في متحف بالتيمور.
وعلى الرغم من أن رسوم الكارتوناج أو الأقنعة الخشبية كان شائعاً في مصر القديمة لارتباطه بالعقيدة الدينية الخاصة بعودة الروح إلى الجسد بعد الموت، فكان القناع الخشبي يوضع علي المومياء المحنطة لتهتدي إليها الروح في رحلة عودتها، فإن صور الفيوم شكل فني يرجع تاريخه إلى العصر القبطي، عندما كانت مصر تحت احتلال الإمبراطورية الرومانية. فالصور المرسومة كشكل فني، كانت مستوحاة بالدرجة الأولى من التقاليد الرومانية الإغريقية رغم أن الفكرة نفسها مستوحاة من الثقافة الفرعونية.
وتعد تلك اللوحات الطبيعية فرصة هائلة لتحليل وجوه تنتمي إلى 2000 سنة مضت. وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن إنتاج صور المومياوات انتهى حوالي منتصف القرن الثالث بعد الميلاد.
اللافت أن أصحاب تلك الصور أو "البورتريهات" لم يكونوا من ذوي النفوذ السياسي، فبعض اللوحات التي عُثر عليها في الفيوم تكشف أنهم من العامة، مثل هيرون بن أمونيوس، مدرس الفلسفة، وهرميوني المعلم، وديمتريوس حائك ملابس.
و في كتابه "بورتريهات الفيوم" يقول الدكتور عزت زكي حامد قادوس: "كانت البورتريهات تلون بفرشاة مصنوعة من ألياف النخيل، لإضافة وتوزيع الألوان على الخلفية والشعر، وساعد الجو الدافئ في مصر على توزيع الألوان على الخلفية والثياب والشعر على توزيع الشمع على هيئة طبقة رقيقة ومتساوية على خلفية الرسم".
والبورتريهات حالة متفردة في تاريخ الفن الإنساني، إذ كان الأحياء يطلبون رسمها لتلصق على توابيتهم بعد الموت، وكانت ترسم على خشب أو قماش ملصق على خشب أو خشب به طبقة من الجص. وكانت بداية لانطلاق فنون أخرى انتشرت في العالم، مثل فن الأيقونات إبان الفترة القبطية في مصر، كما أن الرسومات اتسمت بالواقعية مع لمسة حزن على تلك الوجوه.
صورة لرجل في متحف متروبوليتان للفنون بنيويورك.
تبدو بورتريهات الفيوم للبعض وجوها تتطلع إلى الحياة الأبدية، حيث تحمل نظرة أصحابها إيحاءً كما لو كانت في منطقة وسط بين الحياة والموت يعيشها صاحب البورتريه.
ولهذه الصور طبيعة فريدة.. فهي تمثل أشخاصًا بعينهم، ويلاحظ أنها كانت ذات غرض جنائزي، إلا أنها تختلف جذريًا عن الفن المصري في التصوير، وتمتاز بتصوير الشخصيات تصويرًا واقعيًا وطبيعيًا، ورُسمت بأسلوب فياض بالمشاعر الإنسانية، وإن كان أغلبها حزينًا قاتما.
Comments