المحتوى الرئيسى

محمد خليل يكتب: مالفا.. الشاهد الأخير | ساسة بوست

10/24 17:09

منذ 1 دقيقة، 24 أكتوبر,2016

إن ما قدمه مالفا للفن بعد رحلة طويلة وشاقة مع اللوحة، لا يصنف إلا في خانة المبدعين، وكأحد الشخصيات التي أغنت بشكل كبير المشهد الثقافي السوري والتشكيلي، بشكلٍ خاص.

فهذا التشكيلي الكردي، الذي تمرد على تفاصيل الحياة البسيطة ووظفها بحسية عالية ومتميزة، جعلت منه أحد أبرز الملونين الكبار في المحترف السوري.

فعندما نتذكر سيرته الذاتية المؤلمة والمليئة بتفاصيل الهروب والعوَز والتشتت، ابتداءً من قريته «تل نايف» في أقصى الشمال السوري، حيث ولد هناك من أبوين كرديين، وانتهاءً في العاصمة النمساوية فيينا، ندرك تمامًا روح الفنان لديه، وكيف نسج من ذاكرته الملطخة بلون تراب تلك القرى البعيدة ووجوه فلاحيها، ليقدم لنا حوارًا بصريًّا مكثفًا من النُظم اللونية والقيم التشكيلية المبهرة، مستحضرًا صدى ثقافات تلك المنطقة، وحضاراتها.

واجه مالفا تحديات حياته بقوة ألوانه. فخلال سنوات الدراسة في الحسكة، اضطر للعمل ليلًا في دار للسينما، خطاطًا ورسامًا وقاطع تذاكر. ولكن بنفس الوقت كان يروي ذاكرته العبثية وعلاقته مع الأشياء من حوله، وكأنه كان ينظم قطعًا رخامية أثرية.

فبدأ يرسم حقول القمح والقطن ووجوه الفلاحين، مستعينًا بشفرات حلاقة بدلًا من فرشاة. ولا طالما أخفى لوحاته عن أعين والده، الذي وصف تلك الهواية بـ«التي لا تطعم الخبز»، ولكنها كانت كفيلة بأن تروي قلبًا عاشقًا للون واللوحة.

أكمل مالفا طريقة وحيدًا، وأعتلى أحلامه البسيطة متجهًا إلى دمشق العاصمة، بعد أن أغواه سحرها. فقد راهن على حسية لونه وأثر فرشاته، لتكون شاهدة على ولادة كائن لا يعرف غير اللوحة.

في دمشق، أقام معرضه الأول في المركز الثقافي العربي. وعمره آنذاك لم يتجاوز الثامنة عشر. فعُلِقت لوحاته شاحبة وصامتة، وكأنها جثثٌ لجنودٍ في مقبرة منسية، وعلى زواياها لقبه «مالفا» من وحي اسم وردة في قصةٍ لتشيخوف.

كانت صدمةً بالنسبةِ لشابٍ آمن بجنونِ فرشاته وهيجانَ لونه، بأن لا تُباع أي لوحة، بل أصبحت حملًا ثقيلًا على عاتقهِ، أجبرتهُ على إضرام النار فيها، في إحدى ساحات دمشق. ليعود إلى أرضه جنديًا خاسرًا فقد بندقيته.

مضت سنة، ولم تمتد يده إلى فرشاةٍ أو لون. لقد بدا وكأنهُ فقد روحه، وتاه في خِضم صراعاته مع تفاصيل الحياة اليومية. حتى عاد إلى دمشق مرغمًا، لتأدية الخدمة الإلزامية في «سرايا الدفاع».

لقد وجد نفسه مجددًا في عزلةٍ تامة، جردت منهُ ما تبقى من أحلامهِ؛ فقضى تلك الأيام على مقاعد الحدائق العامة، وفوق كراسي مجلة الفرسان، التي بدأ العمل بها كمصمم ورسام.

في تلك المرحلة من حياته المضطرِبة والقلِقة، عاد مالفا إلى بحثه عن كينونة الأشياء، وعلاقتها المعقدة مع روحه. لقد غرق كليًّا في طقوسٍ، أنقذته من روتين حياته المختصِرة ضِمنَ حدود تلك المجلة.

لم يتحمل مالفا سُخرية القدر وتفاهة دوره في سير الحياة، ليتمرد على كل شيء ويهرب بجوازِ سفرٍ مزور إلى بيروت، ومن ثم، على قارب صيد إلى قبرص. وهكذا حتى استقر به القدر في فيينا، ليُنهي رحلة محاربٍ ومتمردٍ، وبداية لحفلةٍ لونية لن تنتهي ولن تضمحل.

لقد وجد مالفا في فيينا مساحة كافية، ليُهدئ روحه المضطرِبة بألوان تجلت في لوحات انطباعية مكسوة بذاكرة حسية مفرطة، بمشاعر الغربة والحلم والوجع. فأثار بعمله عيون النقاد والمهتمين، وأعتلى رويدًا سلم الشهرة في الوسط التشكيلي، بعدما عانى الويلات والعناء من كل شيء.

مضى في دربه حرًّا طليقًا، يجول مدن العالم حاملًا لوحاته وأحلامه، ليطرز اسمه من بين عمالقة الفن السوري؛ فعاد إلى وطنه حالمًا وفنانًا وعاشقًا، بعد أن غادرها ضائعًا ومهزومًا ومجبرًا.

لقد أكد مالفا في لوحاته، حرية الوجود وأحقية تفرد التجربة، التي تجرد الفنان من كل الانتماءات، إلا إنسانيته وصدقه مع لوحاته.

وعلى الرغم من هالة الإبداع وعمق الأفكار في لوحاته، حافظ مالفا على شخصية الفلاح البسيط لديه. وتأثر كثيرًا بالمشهد السوري، وتأسف على همجية القتل والدمار والتشرد. كان هذا واضحًا في تجربته الأخيرة من حياته؛ حيث فظاعة المشاهد وتفاصيل الموت في وجوه شخصياته ولونه، وذلك انطلاقًا من ذاكرته البعيدة، وانتهاءً ببقع الدم في الشوارع.

كان ذلك آخر صراع خاضه مالفا مع الموت في لوحاته، حيث قهر الموت هناك، ولكن لم يقهره في حياته، ليرقد هادئًا، كطفلٍ نائم أهلكه التعب.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل