كاتب وجاهل.. وبينهما مأساة (نوبليات-3) | المصري اليوم

هل هناك جدوى من الكتابة؟

هذا السؤال المحير، من أكثر الأسئلة التي طرحها الكتاب، كما طرحها في المقابل البرجماتيون الذين يحتقرون الثقافة، ولا يؤمنون إلا بإله الواقع و«السبوبة»، وقد كتبت كثيراً محاولاً العثور على إجابة مقنعة لهذا السؤال الذي يطاردني في النوم والصحو، ويضغط على أعصابي كلما جلست لأكتب، لكن السؤال يظل عصياً على الإجابة، حتى إنه دفعني أكثر من مرة للتوقف تماما عن الكتابة، وقد وصلت فترات التوقف إلى سنوات متصلة أحياناً، وحينها استطعت الهروب من سؤال: لماذا تكتب؟، وحصلت بدلا منه على سؤال جديد ومعاكس هو: لماذا لا تكتب؟

كانت الإجابة على السؤال الجديد أسهل كثيرا، فقد قلت ساخراً: لكي أحصل على هذا السؤال الجديد اللطيف، بدلا من أن يسأل الناس متهكمين ناقمين من وراء ظهري: لماذا يكتب؟

كنت أطمح دوما لكتابة فاعلة، مؤثرة، تغير العالم للأفضل، لكنني لم أنجح في الوصول لذلك، لأنني اكتشفت أنني أحاول أن أشرب الماء لأروي ظمأ الآخرين، وهذا العبث قادني إلى معنى جديد، بل معان جديدة كثيرة، اكتشفت أن معظم الكتاب في كل الأراضي وبكل اللغات يشاركونني فيها، وهذا ما صاغه بأسلوب مكثف وموحي أديب الصحراء الفرنسي جان ماري لوكليزيو، الحائز على نوبل قبل 8 سنوات، في واحدة من المفاجآت التي لا تتوقف للجائزة.

سال لو كليزيو في بداية المحاضرة التقليدية التي يلقيها الفائز بنوبل: لماذا نكتب؟، وما جدوى الكتابة؟، وأعقب سؤاله بإجابة صادمة قال فيها: لم يعد للكاتب منذ زمن طويل جرأة الادعاء بأنه يكتب لتغيير العالم، أو أنه سيستطيع عبر قصصه وأشعاره أن يفرض نموذجاً مثاليا لحياة أفضل، ولما أدرك الكاتب أنه لم يعد قادرا على تغيير العالم فقد سعى بكل بساطة أن يكون شاهدًا وفقط.

يواصل لو كليزيو: تأملوا معي المفارقة الغريبة: الكاتب الفاقد القدرة على تغيير العالم يريد أن يكون شاهدًا، بينما هو في معظم الأحوال والأوقات ليس إلاّ متفرج يكحّل عينيه بما يحدث حوله في الواقع، ويتحول إلى شاهد بالفعل في أحيان قليلة، ولكن في الكتب والدراما وأفلام شارلي شابلن، وهكذا يكون الكاتب شاهداً بجدارة وامتياز، وهكذا فإن الكاتب أنه لا يكون شاهدًا صادقاً وممتازا إلا عندما يكون شاهدًا رغم أنفه... عندما يدفع بنفسه ثمن شهادته، أما قدرة الكاتب على الفعل، فتظل أعز ما يطمح إليه الكاتب، ولا يصل إليه إلا نادراً.