المحتوى الرئيسى

قصة انحسار الديمقراطية | المصري اليوم

10/23 23:48

فى 1986 اندفع الفلبينيون إلى الشوارع مطالبين بإنهاء حكم الديكتاتور «ماركوس» الذى حكم البلاد لعقود. شباب الجامعات والطبقة الوسطى كان الطاقة المحركة وراء المظاهرات. شكلوا ما يقرب من المليون. أُطلق على الحركة مسمى: «قوة الناس»، People power. المعنى هو إزاحة الحكم الديكتاتورى عبر حشد جماهيرى هائل فى الشوارع. نجاح الحركة فى إزاحة «ماركوس» ترددت أصداؤه فى آسيا وما وراءها، وصولاً إلى «الثورة الخضراء» فى إيران 2009. ساد الفلبين مزاج احتفالى. تدفقت فى العروق طاقة أمل. تولت زوجة زعيم المعارضة «أكينو»، الذى اغتالته الديكتاتورية، الحكم. للحظة، بدا أن كل شىء يسير فى الاتجاه الصحيح. حاول الجيش، وبعض «فلول» ماركوس، تدبير انقلاب عسكرى فى 1989. لجأت «أكينو» للشعب ولشباب الطبقة الوسطى الذين نزلوا للشوارع مجدداً. أظهروا عزماً أكيداً على حماية ديمقراطيتهم الشابة. تردد فى الأجواء شعار زعيم المعارضة المغدور: «الفلبين بلد يستحق أن نموت من أجله».

هل انتهت القصة هنا؟ بالطبع لا.

لنجر بشريط الأحداث حتى عام 2001. مظاهرات واسعة أيضاً. يقودها الشباب وأبناء الطبقة الوسطى كذلك. الشعار الجامع هو إسقاط الرئيس «جوزيف استرادا». إنه ممثل تحول إلى السياسة. حكمه اتسم بدرجة هائلة من الفساد والمحسوبية وانعدام الكفاءة. المظاهرات ضده تبدو ديمقراطية. هى تذكر بحركة «قوة الناس» فى 1986. ثمة فارق بسيط. «جوزيف استرادا» انتُخب ديمقراطياً فى 1998. هو تبنى سياسات شعبوية جلبت له تأييد الفقراء وسخط الطبقة الوسطى. نفس الشباب الذى تظاهر ضد ماركوس والجيش فى 86 أصبح ينادى فى 2001 بتدخل العسكريين. عندما سحب الجيش دعمه لـ«استرادا» فهم أن عليه أن يرحل. رجاله وصوفوا ما جرى بـ«انقلاب صامت». تسلمت الحكم نائبته «جلوريا أوريو». هل انتهت القصة؟. لا. بعد سنتين من حكمها احتشدت المظاهرات من جديد بهدف الإطاحة بها. نفس الطبقة الوسطى لم تعجبها ميول «أورويو» السلطوية. الفلبين تحولت فى فترة حكمها إلى أسوأ بلد فى العالم بالنسبة للصحفيين بعد العراق (!). لم ينقذ «أورويو» سوى مساندة الجيش.

ما الذى حدث؟ كيف تحولت الطبقة الوسطى من النضال من أجل الديمقراطية إلى النضال ضدها؟. كيف اختارت اللجوء إلى تظاهرات الشوارع، مع كل ما يمثله ذلك من خطر على المؤسسات الديمقراطية التى يُفترض أنها الأداة الدستورية لمعالجة تجاوزات السلطة؟. قصة الفلبين ليست فريدة فى بابها. السيناريو ذاته تكرر فى أكثر من بلد. ثورة من أجل الديمقراطية تعقبها ثورة ضدها! العقد الماضى شهد أكبر تراجع للديمقراطية على مستوى العالم خلال الأربعين سنة الأخيرة. فى كتاب «تراجع الديمقراطية: ثورة الطبقة الوسطى، وانحدار الحكومة التمثيلية»Democracy in retreat: the revolt of the Middle Class and the Worldwide Decline of Representative government يقدم المؤلف Joshua Kurlantzick عدداً من التفسيرات المدهشة لهذه الظاهرة.

السر فى الطبقة الوسطى. النظرية التقليدية تقول إن الديمقراطية تحتاج إلى مستوى اقتصادى معين. درجة من التنمية تسمح بوجود طبقة وسطى واسعة من المتعلمين. أبناء هذه الطبقة يصبحون أكثر اتصالاً بالعالم الخارجى. هم أيضاً يبدأون فى تكوين روابط مجتمعية بعيداً عن هيمنة الدولة. تلك هى اللحظة التى تنهار فيها النظم السلطوية وتبزغ الديمقراطية. كلام معقول، ولكن ما قولك فى أن أحداث العقد الماضى أثبتت عكس هذه النظرية على طول الخط؟. هناك عودة لظاهرة الانقلابات العسكرية. فى 50% من حالات الانقلابات فى السنوات العشر الأخيرة، جاء تحرك الجيش إما بمباركة وتحفيز من أبناء الطبقة الوسطى، أو أن هؤلاء احتفلوا ورحبوا بالانقلاب بعد وقوعه. كان ذلك بالضبط هو ما جرى فى تايلاند بعد الانقلاب على حكومة «شيناوترا» المنتخبة فى 2006، ثم على أخته بعدها فى 2014. تكرر ذات السيناريو فى بنجلاديش التى شهدت انقلاباً مماثلاً فى 2007. فى فنزويلا، حاول العسكريون الانقلاب على «شافيز» فى 2002 على خلفية مظاهرات واسعة سعى منظموها للتمهيد لتحرك الجيش. ولكن الانقلاب فشل، وعاد «شافيز» للحكم بعد 48 ساعة.

بعد تجارب مُلتبسة مع الممارسة الديمقراطية أدرك أبناء الطبقة الوسطى الخطر الذى تمثله هذه المنظومة السياسية على مصالحهم. المجتمعات الغربية تتمتع بطبقة وسطى عريضة تمثل 50% من السكان على الأقل. الطبقة الوسطى فى العالم النامى تتوسع أيضاً (تزيد بمعدل 70 مليون فرد سنوياً على مستوى العالم). مع ذلك، تظل هذه الطبقة أقلية لا تتعدى 30% فى أغلب بلدان العالم النامى. ما معنى ذلك؟ المعنى أن الطبقات الفقيرة إذا تكتلت خلف مرشح فإنه يستطيع الفوز بالانتخابات. بعد فوزه، غالباً ما يتبنى المرشح سياسات شعبوية تحابى الفقراء وتأتى على حساب المميزات التى تتمتع بها الطبقة الوسطى.

فى مطلع القرن كان 10% فقط من سكان العالم يعيشون فى دول ديمقراطية. عدد هذه الدول لم يتعد الاثنتى عشرة دولة، جميعها فى العالم الغربى. فى عام 2005 صار نحو نصف سكان العالم يعيشون فى ظل نظم ديمقراطية. الفكرة اتسعت وكسبت أرضاً، لا شك فى هذا. ولكنها تشهد فى السنوات الأخيرة تراجعاً واضحاً. الأسباب كثيرة. أخطر الأسباب جميعاً هو الفشل الاقتصادى. أبناء الطبقة الوسطى لم يشعروا بأن الديمقراطية حققت النمو الاقتصادى الذى طالما وُعدوا به.

Comments

عاجل