المحتوى الرئيسى

عمرو فاروق يكتب: البلطجة المعرفية | ساسة بوست

10/23 17:56

منذ 1 دقيقة، 23 أكتوبر,2016

ناقشنا في المقال السابق مفهوم اللانهاية، وكيف أنه ليس إلا واجهة سطحية لصراع عميق وقديم بين عقيدتين متصارعتين منذ بداية التاريخ المكتوب للعلم؛ العقيدة الأولى والتي سميناها تبسيطا الحدسية١، والعقيدة الثانية والتي سميناها المادية. وأن كل عقيدة من هاتين العقيدتين هي في الحقيقة مجموعة من الافتراضات الفلسفية لإجابة سؤالين:

ما هو الوجود؟ مثلًا هل الوجود مادي فقط أم مادي وميتافيزيقي أيضًا؟ وما هي المعرفة؟ مثلًا ماهي مصادر المعرفة التي لها شرعية، هل هي المعارف المنطقية والحسية أم الحدسية أيضًا؟

وكما شرحنا في المقال السابق، فإن الإجابة التي نختارها لهذه الأسئلة هي المعيار للحكم على صحة أو خطأ أي رأي علمي. فكما وضح توماس كون في نظريته المشهورة عن كيفية تطور العلوم، فإن كل مجموعة من العلماء يشتركون في مجموعة من الأسس الفلسفية، وبالتالي يشكِّلون مجتمعًا علميًا منفصلًا، يتشارك في منتجاته العلمية، ويحافظون على التناسق بينهم وبين بعضهم. وهكذا تتشكل عدة من المجتمعات العلمية المتنافسة إلا أنه في وقت ما قد تسود إحداها إلى أن يثبت قصورها، فيبزغ نجم المجتمع العلمي المنافس. ولكل مجتمع أسسه التي يقيس صحته على أساسها.

ولهذا يمكن لاثنين من العلماء من انتماءات فلسفية (أي عقائدية) مختلفة أن يتبع كل منهما أسلوبًا علميًا صحيحًا لدراسة نفس السؤال، ومعاينة نفس الأدلة، ويصلا إلى نتيجتين متناقضتين لبعضهما البعض. وكلاهما صحيح في حد ذاته؛ حيث إنه متسق مع افتراضاته التأسيسية. ولكنه غير صحيح حين تقيّمه بالمعايير الفلسفية للعالم الآخر. ولهذا لا يمكن أن نحكم على صحة أي من المنتجات المعرفية إلا بعد أن نختار أي عقيدة ننتمي إليها أولًا، وهو في معظم الأحوال اختيار فلسفي وعقائدي وليس اختيار موضوعي.

على سبيل المثال: ناقشنا في مقال سابق أن التباين الكبير بين علماء الرياضيات في تعريف اللانهاية ليس إلا صورة لاختلافهم في فهم ماهية الأعداد نفسها؛ ما إذا كانت ميتافيزيقية، أم وصف مادي، أم فكرة متخيلة؟، وهو في الأصل صورة من صور الاختلاف العقائدي وليس العلمي لطبيعة الوجود.

وعلى مر العصور، كان الصراع يظهر على السطح، كأنما هو سعي ذو دوافع موضوعية بحتة للوصول إلى الأصح. ولكن الحقيقة أن الدوافع العقائدية كانت كثيرًا ما تكون هي المحرك الحقيقي للصراع. ولكن اعتاد العلماء أن يخبئونها بمهارة لكي يحافظوا على السمت الموضوعي لمنتجاتهم العلمية. وقليلون من كانوا يمتلكون الشجاعة للتصريح بكيف تؤسس تحيزاتهم العقائدية لاستدلالاتهم العلمية.

وفي النهاية، فكل من الفريقين يحاولان ترويج منتجاتهم العلمية، وإكسابها شرعية علمية على حساب الآخر. وهي منافسة صحية أفادت البشرية ولم تضرها. إلا ان ترويج المذاهب الفلسفية والعلمية تنطبق عليها أيضًا آليات السوق، وكما تخضع للعرض والطلب، فكذلك تخضع للمنافسة والاحتكار. فإن كانت المدارس العلمية تمثل المنتجين للمعرفة؛ حيث العملاء الذين يستهلكون المنتجات المعرفية هم المهنيون والعامة. وقنوات التوزيع للمعارف هي المنابر الإعلامية والمؤسسات التعليمية وكلاهما يمكن التأثير فيهما عن طريق الجهاز البيروقراطي والسياسي للدولة.

فقبل هذا العصر كان العلم سوقًا مفتوحًا ليس به مدارس كالتي نعرفها اليوم. وكان طالب العلم ينهل من أي مصدر شاء دون فرض آراء ومناهج محددة على المتعلم. فقد كان المتعلمين يشتركون فقط في الأساسيات مثل القراءة والكتابة والحساب والتي يستخدمها الجميع. ثم يتدرج كل منهم في ما يفيده في التأهيل للمهنة التي يستهدفها؛ فيلتزم طالب العلم بالمعلم أو المتخصص في مجال ما حتى يكتفي، أو ينتقل إلى عالم آخر إن أراد الاستزادة. وبهذا يخرج بصورة واضحة للعلم بكافة تنوعاته، وإن كانت محدودة؛ لشح المصادر المعرفية وتشتتها جغرافيًا. وهي الطريقة التي كان يدرس بها أفلاطون على يد سقراط، وهي الطريقة التي كان يتدارس بها المسلمون على يد شيخ العمود، وهي الطريقة التي قام بها عصر النهضة الأوربي. وهي نفسها الطريقة التي لا زال العالم الغربي المعاصر يستخدمها في إعداد علماء من خلال دراسات عليا وأبحاث مشتركة تستغرق سنين يلازم فيها الطالب أحد العلماء ليرشده بشكل شخصي، ولسنوات يتتبع انتاج العلماء في العلم الذي يريده.

إلا أنه في خلال ما يسمى بعصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تم البعد عن هذا النموذج. وظهرت فكرة المدارس النظامية لأول مرة؛ وهي أن تأتي بأطفال في عمر واحد وتعطيهم برنامجًا دراسيًا موحدًا خلال ثماني سنوات، ومن كل النظريات المختلفة تختار لهم إجابة واحدة في كل موضوع، وتلقنها لهم، كأنها هي العلم الذي لا يجب أن يبحثوا عن سواه. وهي طريقة فعالة تنتج بها متعلمين بجودة محدودة، ولكن بأعداد كبيرة، وبسرعة. وتؤهلهم بسرعة لسوق العمل، وقد كان يتلقفهم القطاع العام فورًا للمساهمة في التوسع الاستعماري والحضاري لأوربا وقتها.

وهنا أخذ تاريخ العلم منعطفًا حادًا؛ فقد احتفظ العلماء لأنفسهم بنسخة خاصة من العلم لا يشاركوها مع العوام، والتي فيها العلم الحقيقي بثرائه وتنوعه. بينما صنع العلماء بأيديهم نسخة سطحية ومنحازة من العلوم، يتلقن فيها المتعلم تصورًا واحدًا على أنه «الحقيقة العلمية»، وكل ما عداه «نظريات». ولأن المتعلم يُعدّ للالتحاق بسوق العمل الذي يستهلكه لبقية شبابه؛ فعمليًا لا يملك الوقت ولا المؤهلات (وعادة ولا الرغبة) في أن يراجع دقة هذا النطاق الواسع من العلوم التي لُقِّنت له، ولا أن يُكوِّن وجهة نظر موضوعية من دراسة التفسيرات العلمية البديلة لما درسه. وبهذا فقد أصبحنا نُخرِج أجيالًا لديها اعتقادات سطحية، جامدة ومتعنتة عن ما يمكن أن نسميه «الكتاب المقدس للحقائق العلمية».

أحد التبعات لإنتاج هذه النسخة السوقية للعلم هي أنها أدت إلى خلق كهنوت علمي مركزي لإنتاج وتوزيع النسخة المعتمدة من العلم. و يتم اختيار القائمين على هذا الإنتاج – أي القائمين علي تصميم المناهج الدراسية – وتمويلهم من قبل الملكيات الأوروبية. هذه الملكيات التي كانت تخوض حرب وجود مع الكنيسة ومع قيمها. وكان السلاح الاجتماعي الأهم لهذه الملكيات هو علمنة مفاصل الدولة كوسيلة للتخلص من هيمنة الكنيسة. وكان التعليم النظامي إحدى أهم ساحات هذه المنافسة؛ فكانت الكنيسة تتبنى نسخة مسيحية، والملكيات تتبنى النسخة العلمانية. وبحساب الموارد والقدرات فقد كان الانتصار للأنظمة الملكية مسألة وقت، فلديها منبع موارد يكاد لا ينضب من استعمار الشعوب، وكانت هي الأقدر ماديًا على بناء عدد أكبر من المدارس، وإتاحة فرص أكبر لخريجيها، وحتى المنافسة على طباعة الكتب، وطمس تعليم اللغة اللاتينية والتي كانت سائدة ومدون بها قدر كبير من الأدبيات الدينية، وترويج المؤلفات الفرنسية بما تحمله من أدبيات الثورة والعلمانية.

و هكذا تم استنساخ النظام الكهنوتي بكل مكوناته، من وجود علم سوقي للعامة وعلم للخاصة، وسلطة مركزية تقرر للناس ما الذي يجب أن يؤمنوا به كحقيقة وما الذي يجب ألا يعرفوا، ومعارف العامة أصبحت أحادية؛ حيث يتلقنوا معتقدات دوغمائية لا يجب أن تناقش. وحتى بين العلماء، فقد أصبح الانتماء السياسي والأيديولوجي للمجتمعات العلمية المتنافسة هو ما يحدد -عمليًا- شرعية إنتاجها الفكري، والفرص المهنية المتاحة لها. وهنا كان الدور الجوهري لفلاسفة هذا العصر لتأسيس هذا الاحتكار بمزج العلمي بالمادي بالمنطقي بالعلماني، وتصويرهم للعامة كأنهم تجليات مختلفة لمفهوم واحد، وترويج هذا في النسخ الشعبية من العلم؛ لضمان احتكار السوق المعرفي وسيادة العقيدة المادية.

يظهر هذا الاحتكار المعرفي جليًا مثلًا في ما فعله الماديون مع فكرة أن الكون أبدي، فبالرغم من رفضهم المتكرر على مر العصور لأن يكون للانهاية معنى حقيقي، إلا أن «نيوتن» وضعهم في مأزق بأن أسس رياضيات لا تتوافق فقط مع اللانهاية، ولكن أيضًا مؤسسة فلسفيًا على وجود لانهاية مطلقة، وأن عدم التمام الذي نراه في الكون يؤكد أن الكون محتاجًا لوجود تام مستقل عنه.

إلا أن «كانط» أخرجهم بمهارة من هذا المأزق، فعكس طرح نيوتن نفسه وأسس عليه فكرة أبدية الكون. فهو ببساطة قدم حججًا فلسفية قوية بأن عدم التمام في الكون ليس إلا وهمًا. وأننا ندركه بهذا الشكل القاصر نتيجة لقصور إدراكنا نحن على إدراك الموجودات التامة. بينما الكون موجود بشكل تام (موضوعي، لانهائي وأبدي). وأن كل ما يحدث في الكون يمكن تفسيره بشكل ميكانيكي بقوانين نيوتن.

ومن الغني عن الذكر أن هناك إجماع من العلماء اليوم على عدم صحة هذه الافتراضات؛ سواء الإجماع على عدم أبدية الكون، أو على قصور ميكانيكا نيوتن ومحدودية صحتها.

وبالرغم من عدم صحته، ولكن هذا الطرح كان مهمًا جدًا لتأسيس عقيدة الماديين. فقد قدّم الكون (أو قوانين الطبيعة) كبديل لله، و قدم لهم حجة أنيقة تجعلهم يتجنبون الأسئلة الميتافيزيقية الصعبة دون أن يقدموا تنازلات كالتي قدمها أرسطو بالاعتراف بالخالق. كما أن كانط قد أسس لجانب نفسي مهم جدًا طالما افتقرت له أدبيات الماديين، فقد أعطى شعورًا رائعًا بأن الإنسان المادي قادر علي الإحاطة بالكون والتحكم فيه؛ فوعدهم بأن كل شيء في الكون له شفرة رياضية يمكن فكها، ومن ثم التحكم فيها، وأن الإنسان – على الأقل بشكل نظري – يملك القدرة المطلقة على فك وتركيب الكون كما لو كان مكعبات ليجو للأطفال.

وبالفعل تحمس الماديون للتبشير بهذه العقيدة، فكان نقطة البداية في انقلاب معرفي، استغلوا فيه عدم وجود ضوابط مهنية كالتي نعرفها اليوم، والتي تمنع أي من العلماء من ترويج استنتاجاته العلمية لغير المتخصصين؛ فقدموا عقيدتهم إلى العامة والمهنيين وصناع القرار والجهاز البيروقراطي الحاكم كأنها هي المنتج العلمي الشرعي الوحيد، فقاموا مثلاً بترويج أبدية الكون لمئات السنين كأنه الحقيقة التي لا يخالطها شك، وانحازوا لأي تأويل للمشاهدات الفلكية يمكنه أن يدعم هذا الادعاء. ومن ثم أسسوا مناهج علمية كاملة تعطي الشرعية فقط لما يمكن التحقق منه بشكل مادي وتجريبي مثل منهج الشك لـ«ديڤيد هيوم»، وما تأسس عليها من مناهج وضعية مثل أعمال «بيير سيمون لابلاس». ووصل الأمر إلى تعنت مادي صارم يخلع الشرعية العلمية عن كل من يخالف العقيدة المادية، ويستبيح التضييق عليه مهنيًا؛ لذا فقد كان من الطبيعي أن ينتشر المزاج المادي لدى عموم العلماء، ويطغى على العلم التفسيرات المادية والمنطقية الجامدة.

وأخذ الماديون في إضافة مكونات جديدة على عقيدتهم مثل: الاعتقاد بالعشوائية وقدرتها اللانهائية على الخلق. فافتراض لانهائية الكون هو افتراض سخي جدًا، يمكنه أن يجعلك تخرج بأي استنتاج تريده حتى من العشوائية. فالصدفة ومهما كانت نادرة إن كنت تمتلك القدرة أن تضاعفها وتعطيها عدد لا نهائي من المحاولات سيمكنك أن تخلق بها أي شيء تريد مهما بلغ من تعقيد، وتخرجه في شكل علمي ورياضي أنيق، إن أحببت.

وبالتالي تأسست أركان العقيدة المادية على افتراضات كلها مبني على بعضه؛ وهي:

أبدية الكون حتمية قوانين الطبيعة كفاية المادة (أي لا نهايتها بشكل عملي) الشرعية الحصرية للتفسير المادي و المنطقي القدرة اللانهائية للعشوائية على الخلق

هذه المكونات بلا استثناء أثبت العلم اليوم عدم صحتها أو عدم كفايتها، ولكن بعد أن كانت قد أثرت على عدد ضخم من النظريات خلال القرون من الثامن عشر إلى العشرين؛ فطالت أساسيات الفيزياء، والبيولوجيا، والكيمياء وعلم النفس وحتى علم الاجتماع والجغرافيا. ومما زاد الأمر سوءً؛ أنه ولسنوات طويلة مارس الماديون «بلطجة» فكرية ومهنية على كل من اعترض عليهم حتى أصبحت معارضة العلماء لأي من مكونات العقيدة المادية يتطلب شجاعة لا تتوافر إلا لعدد محدود من العلماء، كما أن عموم العلماء والأكاديميين تعلموا منذ بدء مسارهم المهني أن يتلقوا هذه المكونات بشكل دوغمائي كأنها الكتاب المقدس للعلم، والذي لا يحتاج لتبرير في حد ذاته.

ولأن المجال يقصر عن مناقشة كل المكونات، فسنناقش مكون الأبدية كمثال لكيف أدت البلطجة المعرفية للماديين في إنتاج وترويج أفكار مغلوطة. وأن علماء في قامة أينشتين نفسه كان تحت تهديد هذه البلطجة المعرفية.

فعندما قدم «أينشتاين» النسبية العامة، والتي نستطيع من خلالها حساب عمر الكون، وبعد الاحتفاء بها علميًا، فوجيء الجميع ومن ضمنهم أينشتاين نفسه بالتبعات العقائدية لهذا الاكتشاف، وأنه يثبت أن الكون غير أبدي، له بداية ونهاية. وليتهرب أينشتين (اليهودي المؤمن) من استعداء الماديين، فقد سارع بتغيير المعادلة بإضافة رقم جديد (Cosmological fudge factor) ليجبر المعادلة أن تخرج نتيجة تُظهِر الكون كما لو كان ساكن وتام وبالتالي أبدي. ولكن بعد سنة واحدة من نشره للمعادلة الجديدة بدأ في العمل تلسكوب ضخم في كاليفورنيا مكننا لأول مرة أن نرى المجرات البعيدة، وهو ما مكن «ادوين هابل» (المسمى على اسمه تليسكوب هابل الشهير) من إثبات أن سُحُب الغبار المنتشرة في السماء ليست جزء من مجرتنا كما كنا نعتقد، بل إنها مجرات أخرى خارج مجرتنا. وأن مجرتنا لا تحتوي على الكون كله كما كان يظن أينشتين، بل هي جزء من مجموعة كبيرة من المجرات في حالة تمدد وتباعد مستمر، مما يتوافق مع النسخة الأصلية من النسبية العامة. وتوالت الأدلة المادية والرياضية التي تُثبت أن ما أضافه آينشتاين لا يمكن أن يكون صحيحًا. وبعد نشر نتائج أبحاث هابل أعلن أينشتاين أن اختلاق هذا الثابت كان أكبر خطأ في حياته٢ ، وسلم بضرورة أن يكون للكون بداية.

وحتى بعد أن أجمع العلماء على وجود بداية للكون، فالاختيارات العقائدية المادية طغت على الفضول العلمي؛ فلم تتم مراجعة المناهج المادية الفلسفية والعلمية ولا النظريات التي بُنيت بشكل مباشر على أبدية الكون وعلي القدرة اللانهائية للعشوائية.

وبالرغم من أن الأدلة القاطعة جعلت العلماء ينكرون الثابت الذي أضافه أينشتين، ويرجِّحون النسخة الأصلية من النسبية العامة، إلا أن الأدلة الموضوعية لم تكن كافية لتغيير عقيدتهم المادية والتي تقتضي أبدية الكون. فهذا الاعتقاد لكثير منهم لم يكن يومًا مبنيًا على أدلة علمية، بل هو اختيار فلسفي. ولهذا فبدلًا من أن يتبعوا الأدلة حيث تقودهم، فقد نشط العلماء لإيجاد أي تفسير آخر يمكنه أن يدلل على أبدية الكون.

فكما حاول أينشتاين إضافة الثابت ثم أنكرته الأدلة. كذلك طَوَّر البريطاني «آرثر أدينجتون» والبلجيكي «جورج ليمايتر» سنة ١٩٢٧ نظرية «الكون المتردد»، والتي طُوِرَت لكي تسمح بكون لانهائي، وبالفعل صمدت للأدلة لعشرات السنين حتى تم دحضها تمامًا عام ١٩٧٠. وكذلك سنة ١٩٤٨ طَوّر الفلكيون «بوني، وجولد، وهويل» تصور «الكون المستقر» بتصوره كدائرة مفرغة تخلق بعضها، وصمد هذا الفرض حتى الثمانينات لحين تطوير علوم التعقيد الفلكية التي سمحت باختبار فرضهم وأثبتت عدم صحته. ثم نظرية النفق الكمومي لـ«باول ديفيس، وستيفن هوكينج» سنة ١٩٧٠، والتي تعتمد على وجود الزمن لكي تعمل، وبالتالي تحتاج إلى مؤثر خارجي ميتافيزيقي. إلا أن هذه النظرية بالرغم من تزايد الانتقاد لها لا زالت قائمة ومعتبرة إلى الآن. ومن السخرية أن «بول ديفيس» ساق دليل عدم وجود الزمن ليثبت عدم وجود إله؛ فهو كان يعتقد أن الأديان تصور الإله بالشكل البشري لآلهة اليونان، والذي يجري عليه الزمن؛ حيث كانت، ولازالت، الصورة الذهنية الرائجة في الإعلام الغربي عن الإله. ولم يكن يعرف وقتها أن معظم الأديان تتفق أن الإله خارج الزمن.

وهكذا ظلت النظريات التي تحاول إثبات الأبدية تتوالى إلى يومنا هذا، بعضها يُرفَض وبعضها يَصمُد إلى حين. وبالرغم من أن الأدلة كلها تؤكد بشكل قاطع على عدم أبدية الكون. إلا أن وجود الأدلة من عدمه لم يكن يومًا عائقًا أمام العلماء من الإيمان برأي معين والتشبث به حياتهم كلها لإثباته، نجحوا أم فشلوا. وهذا التشبث مبرر تمامًا؛ لأن العلماء مثل بقية البشر ليسوا آلات حيادية، بل هم متحيزون لمعتقداتهم سواء المعلنة أو الضمنية. والعلماء يستطيعون أن يستقرئوا من نفس الأدلة تفسيرات مختلفة بما يتسق ويتوافق مع تحيزاتهم العقائدية والفلسفية.

فالحاكم للإنتاج العلمي هو اختياراتك الفلسفية لماهية الوجود والمعرفة. واختيارك لأحد هذه الاختيارات وتركك للأخرى ليس له مقياس موضوعي حاسم يمكن إثباته بشكل علمي محايد، بل تحدده معتقداتك التي تنطلق منها ونوعية اليقين الذي تطمئن إليه. فإذا أردت أن تقرر طبيعة اللانهاية مثلًا، فإن كنت تؤمن بوجود ميتافيزيقي كما يؤمن كل من المؤمنين واللادينيين (وهم يمثلون في مجموعهم ٦٢٪ من العلماء و٩٧٪ من البشر عمومًا)، فإن مساحة اختيارك ستشمل كلًا من التفسير المادي والميتافيزيقي سويًا، حتى وإن لم تستطع أن تربط بينهما بشكل متسق مثلما فعل «نيوتن أو كانتور».

وإن كنت لا تؤمن بغير المادة فالأمر أبسط بكثير، لأنك ستتفادى كل الأسئلة الوجودية الصعبة بألا تجيب عنها أصلًا، وينحصر يقينك على المعدود والمُحَسّ، وبالتالي ستختار أن تتصور اللانهاية بشكلها المحدود المادي كوصف غير رقمي لفكرة الكبر أو الصغر غير القابلين للإحاطة من عظمهم. ولن يكون رفضك له تبرير علمي قاطع تستطيع أن تحتج به، بل هو اختيار فلسفي وعقائدي. وأقوى حجة تُكسِب التفسير المادي السلطة العلمية، هو أن هذا هو الاعتقاد الأكثر انتشارًا لدى المجتمع العلمي. وإن كان هذا ليس دليلًا في حد ذاته على صحة الاختيار، ولكن شيوعه هو نتيجة المسارات التاريخية للمجتمع العلمي الغربي.

في النهاية، فلو كان هناك إمكانية لحسم هذا الصراع بطرق علمية لكان حُسِم بالفعل منذ زمن، وخصوصًا مع التقدم الكبير في البحث العلمي. ومهما تمادى بعض الماديين في أن يلووا المنهج العلمي ليخرج بحكم بنفي ما هو ميتافيزيقي فإن محاولتهم هذه ليست علمية ولا منهجية ولا يمكن أن تُبَرَر بدوافع موضوعية بل عقائدية. ولا يجب التعامل مع هذه المحاولات غير العلمية إلا كما نتعامل مع بعض الغلاة ممن يحاولون أن يلووا كل اكتشاف علمي؛ ليثبتوا أنه مذكور في القرآن، ولهم أيضا نظراء يفعلون نفس الشيء مع الكتاب المقدس. ففي النهاية القرآن هو كتاب يحمل دينًا للبشر، قد يشير ضمن ما يشير إلى إعجاز الخلق، ويؤسس لمنهج علمي في التفكير والبحث، ولكنه ليس كتاب معادلات وقوانين للفيزياء والبيولوجيا في حد ذاته. وبنفس المنطق، فالمنهج العلمي يختص بإنتاج معادلات وقوانين ونظريات للطبيعة المادية، وبالرغم من أن هذه النظريات المادية عادة ما تشير إلى البعد الميتافيزيقي للوجود، وتدل عليه، إلا أنها لا تستطيع تكوين رأي عنه.

فإدراك ماهية الوجود من التعقيد بحيث أن أي محاولة لاحتوائه داخل منتج معرفي جامد سيحوي لا محالة على تناقض مع طبيعة المعرفة نفسها. فمفهوم مثل اللانهاية يتناقض مع المنطق الجامد منذ أول لحظة. فهي ليست مجرد امتداد لا نهائي للوجود يربك حتى الرياضيات نفسها، بل هي عمق لانهائي للواقع في كل ذراته، وضخامة لانهائية للممكن. وهي تمثل العمق الميتافيزيقي للوجود. ولهذا لا يمكن حصرها في أرقام أو ألفاظ، ولكن يمكن إدراكها بالقدرة الاستشرافية التي زُوّد بها الإنسان، والتي تستطيع أن تتخطى المادة، وتستشرف المدى وتتلقى الوحي.

ويبقى السؤال العملي، لماذا يجب أن نهتم؟ وهل فعلًا الإيمان باللانهاية يؤدي بالضرورة إلى الإيمان بالخالق أم أنه هناك تفسيراتٍ أخرى قد تكون أكثر وجاهة؟ وبفرض إيماننا بالخالق فلماذا أصلًا نؤمن أنه رب وأنه يتدخل في الكون، ألا يمكن أن نؤمن كالربوبيين أن الخالق خلق الكون ثم تركه يسير بعضه بعضًا بشكل مستقل؟ ولهذا حديث نختم به مجموعة مقالات الرياضيات في المقال القادم إن شاء الله.

١ للتبسيط اخترت تسمية المنهجين بالعقيدة الحدسية والعقيدة المادية لدلالة الاسمين في الفهم العام الغير متخصص. الا ان هذه الاسماء فلسفيا غير منضبطة فكلا من المنهجين يحتوي على نطاق واسع من الاختيارات المعرفية وليس فقط الحدس والمنطق. بل إن كلاهما يستخدم تشكيلة من الادوات الحدسية والمنطقية سويا ولكن في مواضع مختلفة بدرجات يقين مختلفة. كما أن العقيدة المادية رغم انه يكثر (ان لم يغلب) أن ينتمي لها الملحدين، الا ان كثير من المنتمين لها مؤمنين، والعكس صحيح.

٢ بالرغم من اعتراف اينشتين بخطأ استخدام الثابت في المعادلة، إلا ان العلماء حديثا بدأوا يقتنعون أن هذا الثابت قد يشير إلى جاذبية المادة السوداء و أن آينشتاين كان من العبقرية بحيث أنه بدون أن يدري كان يكتشف اسرار لم يكن يتوقعها هو نفسه.

تلخيص سلسلة مقالات الرياضيات والإيمان السابقة

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل