المحتوى الرئيسى

هل يعيد التاريخ نفسه؟.. المؤامرة الكبرى للبنوك الأجنبية على مصر نهاية القرن 19 "3" والأخيرة!

10/22 11:59

تقارير اللجان الدولية وصندوق الدين

نتج عن الارتباك الذي سببته الديون الخارجية والديون السائرة التي تكلمنا عنها في المقال السابق، ظروف التدخل الأجنبي السافر وتصاعد التدخل السياسي كنتيجة لما أحدثه غزو القروض..

المهم أن التدخل لفرض الهيمنة الشاملة بدأ ببعثة كيف الإنجليزي (بعد صفقة قناة السويس) وكان الخديوي إسماعيل تحت ضغط الاختناقات المتلاحقة -قد طلب من الحكومة البريطانية إعارة خبيرين (يشرفان على الدخل والخرج خاضعين لإرشاد ناظر المالية وأوامره ويكون أحدهما على الأقل ملماً بموضوعات علم الاقتصاد السياسي التي أوضحت للناس في العصور الحديثة المبادئ الصحيحة التي تنمو بها موارد البلدان).

ولكن الحكومة البريطانية فهمت الطلب بطريقتها الخاصة، فتجاهلت مسألة تنمية الموارد، وبدلاً من إرسال موظفَيْن للحكومة يكونان طوع وإرشاد ناظر المالية، تحول ذلك إلى إرسال بعثة لتفاوض الخديوي وحكومته في إدارة مصر ومركزها المالي وكانت الحكومة البريطانية تسعى للاستفادة سياسياً من لحظة الاختناق التي يواجهها الخديوي، فالحكومة المصرية تحتاج مساعدات من الحكومة البريطانية لكي تتمكن من تحويل الديون الصعبة إلى ديون ميسرة، ولكن هذا يتطلب من الخديوي أن يخضع بطريقة ما صاغراً للإرشاد الإنجليزي، ويعهد إلى إنجلترا بإدارة مالية مصر.

مع فشل بعثة كيف الإنجليزية أعقبها فييه الفرنسي، وخلال هذه الفترة تدهورت مالية البلاد بسرعة، وأصدر إسماعيل أمراً بالتوقف عن دفع أقساط الديون وفوائدها لمدة ثلاثة أشهر، وأصدر مرسوماً بعد ذلك بإنشاء صندوق الدين، وقد تحددت إيرادات معينة ترد إلى هذا الصندوق رأساً وليس عن طريق نظارة المالية، ونص على شروط منها أنه لا يجوز للدولة اتخاذ أي إجراء من شأنه إنقاص الحصيلة المخصصة للصندوق، وعدم استطاعتها عقد قروض جديدة إلا بموافقة الصندوق، وتتضمن هذا الحظر ثاني اعتداء على سيادة الدولة المالية.

ويعلق الأستاذ محمد رشدي، رئيس مجلس إدارة بنك مصر وتلميذ طلعت حرب بقوله، إن تصرفات الحكام المصريين في شأن إنشاء صندوق الدين تتسم بالغباء والاستهتار المبالغ فيه، فأي منطق يمكن أن يقبل أن يعين مندوبو الدول الأجنبية في الصندوق وهم الذين يتربصون بمالية مصر، بترشيح من دولهم، وليس للخديوي عليهم من سلطان إلا في أن يصدر مراسيم تعيينهم ليصبحوا كموظفين مصريين؟!

وكيف يمكن لمالية الدولة أن تستقيم وصندوق الدين يستولي على أكثر من نصف إيراداتها ليعطيه للدول الأجنبية لقمة سائغة دون مجهود يذكر؟!

وتعاقبت اللجان الفرنسية والإنجليزية على مصر وتوالت تقاريرها التي تعلن التدخل المباشر والصريح في سياسة مصر وإدارتها مثل لجنة جوشن (مندوباً عن إنجلترا) وجوبير (مندوباً عن فرنسا) ومهدت القوى الاستعمارية لتدخلها الرسمي في إدارة البلاد وتعيين وزيرين في الحكومة المصرية أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي مهدت ذلك بقتل إسماعيل المفتش وزير مالية الخديوي إسماعيل الذي كان يقف عقبة أمام شروطهم وتقارير لجانهم وجاءت بعميلها ورجل الاستعمار الأول نوبار باشا الأرمني الأصل الذي تولى رئاسة الوزارة المختلطة التي كانت تضم لأول مرة وزيرين أجنبيين في الحكومة أحدهما فرنسي والآخر إنجليزي لكي يشرفا على إدارة مالية البلاد ويشرفا على الدخل والخرج ويقررا ما يجب إنفاقه وما لا يجب..

وهكذا نجد أن الدول الغربية لا تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم والتحريض عليها، لتنفيذ سياستها. ومهدت ذلك بتقارير ولجان الإصلاح دراسة الأوضاع الاقتصادية والمالية ورفع التقارير وإبداء النصح والمشورة وانتقلت إلى التخلص ممن يقفون في طريقها واستخدام العملاء ولم يكفِ وضع عميل مثل نوبار باشا رئيساً لمجلس النظار (أي الجهاز التنفيذي - قلب الدولة) ولكن شاركت إنجلترا وفرنسا بوزيرين (ناظرين) فتتحققت بذلك الديمقراطية ودولة المؤسسات المطلوبة وهدأت خواطر القوى الاستعمارية.

توصيات التقارير واللجان الدولية بالإصلاح الاقتصادي والسياسي والديمقراطية

وكان الغطاء الآخر الذي تصاعد في ظله التدخل كان ترشيد الأداء الاقتصادي وضبط الموازنة وتطوير الإدارة، وبالتأكيد كانت الدول الأجنبية في مرحلة معينة تهدف إلى تحقيق ذلك، ولكن بأي معنى؟ أثبت التاريخ في هذا الموضوع، كما أثبت في قضية الديمقراطية، أن هذه الأساليب لم تكن مفاهيم مجردة أو محايدة، وإنما قصد بها منذ البداية خدمة أهداف محددة:

فتحطيم السلطة الاستبدادية كان يعني مشاركة ثم قيادة الدول الاستعمارية -وعلى رأسها إنجلترا- لهذه السلطة، وترشيد الأداء الاقتصادي كان يعني ترتيب الأوضاع على النحو الذي يضمن انتظام التبعية، ويضمن بالتالي انتظام انسياب الموارد المصرية إلى الخارج، أو تنظيم عملية النهب. ولم تكن لدى السلطات المصرية وعلى رأسها الخديوي أي أوهام حول هذا الموضوع، كان الخديوي إسماعيل على الدوام مهتماً بالاستعانة بالخبراء الأجانب في جميع مصالح الدولة، ولكنه كان يصر دائماً على أن يكونوا مسؤولين أمامه ولا يتلقوا أوامرهم من حكوماتهم أو يقدموا إليها أية تقارير. على أن الحكومتين البريطانية والفرنسية كانتا تميلان إلى اعتبار هؤلاء الخبراء، ولو جزئياً على الأقل، عملاء لهما، وكانتا تريان أنه لكي يكون عملهم فعالاً، فمن الضروري حمايتهما من الضغوط التي يتعرضون لها بسبب ميول الخديوي (الاستبدادية) ومعنى ذلك رغبة هاتين الحكومتين في استخدام هؤلاء الخبراء كوسيلة لفرض السياسة البريطانية والفرنسية. وكان إسماعيل يدرك ذلك.

وبعد أن خلع اسماعيل، وتولي توفيق أجبر الخديوي الجديد (توفيق) على تعيين مراقبين أحدهما بريطاني والآخر فرنسي ومنحهما من السلطات ما يكفي لإعادة بعض النظام إلى المالية المصرية وتحقيق مصالح أصحاب الديون، وأعلن أنه لا يجوز للحكومة المصرية عزل المراقبين دون موافقة دولتيهما، وبهذا أضحت الرقابة الثنائية رقابة دولية من الناحية الرسمية، وتم التوصل بعد ذلك إلى ماعرف بقانون التصفية في عام 1880 وفي هذا القانون روعي مبدأ عدم ذبح الأوزة وخفضت نسبة الفائدة إلى 4% بدلاً من 7%..

وهكذا أدرك الأجانب أن الفوائد التي كانوا يتمسكون بها تحد من مقدرة البلاد المالية التي من الممكن أن تؤثر بالكامل على إنتاجيتها؛ لذلك عملوا على عدم ذبح الأوزة وتقليل الأعباء عليها بعد ما ضمنوا الإمساك بعنقها وإدارة شؤونها بعد الاحتلال، حيث إنه من الملاحظ أن الديون أخذت في الارتفاع بشكل ضئيل من بداية الاحتلال عام 1882م وحتى 1892م، حيث ارتفعت بحوالي ثمانية ملايين جنيه فقط، وباستثناء هذا الارتفاع يمكن القول إن الديون كانت ثابتة تقريباً ابتداءً من عام 1880م، بل أخذت في التناقص -ولو بمعدلات ضئيلة منذ عام 1895م حتى بداية القرن العشرين..

ويفسر ذلك أن استتباب الأمر لإنجلترا في مصر، جعلها لا تجد لديها دافعاً جديداً لإضعاف مالية الدولة أكثر مما كانت عليه من ضعف.. فقد انتهت مرحلة الإغراق في الديون، وبدأت مرحلة الترشيد لجني الثمار بشكل مستقر، وتقول التقديرات إن اجمالي الديون الخارجية كان يقل عن 100 مليون جنيه، ولم تنتفع مصر منها في شكل مشروعات بأكثر من خمسين مليوناً في أحسن الأحوال، وذهب الباقي هباء في عمولات أو تبذير من جانب إسماعيل.. وبفضل الإدارة الرشيدة على يد الخبراء تقاضى الاستعمار مقابل الخمسين مليوناً هذه أرباحاً وفوائد وصل مجموعها إلى 250 مليون جنيه.

سيطر الأجانب على مصر ونتيجة لتدهور الأوضاع وسوئها، تدخلت الدولة العثمانية سنة 1879 وعزلت الخديوي إسماعيل لتسببه في سوء أحوال البلاد وعينت بدلاً منه ابنه محمد توفيق باشا خديوي لمصر.

ولم يطمئن الغرب ويكتفوا بما فعلوه في البلاد وسيطرتهم على أقواتها وتعيين رجالهم في الوزارة المصرية واستعمال العملاء مثل نوبار باشا على رئاسة مجلس النظار (الوزراء)، أرسلت إنجلترا جيوشها وأسطولها إلى مصر وأعلنت أنها غير مطمئنة على اموال رعاياها التي أقرضوها للحكومة المصرية، وأن الجالية الأجنبية لا تأمن في ظل تردي الأوضاع في مصر، خاصة بعد تذمر الضباط العُرابيين اعتراضاً على التدخل في شؤون مصر وتدهور أوضاعها..

ولما كان هذا التذمر من الجيش لِما لحق بالبلاد، فإن هذه الحركات والثورات من قبل الجيش قد تعرض سلامة الجاليات الأجنبيه في مصر والأموال التي أقرضوها للحكومة المصرية للخطر، وعلى ذلك فإن إنجلترا قد رأت أن تضمن حقوق وأموال هذه الجاليات وتأمن لهم ذلك بوجودها في مصر للحيلولة ضد قيام أي انقلاب أو حركة من الجيش المصري تؤثر على ضمان هذه الأموال أو تؤثر على سلامة رعاياها.

وهكذا دخل الاحتلال الإنجليزي مصر 1882 بسبب الديون الأجنبية، وبحجة حماية أموال وممتلكات الرعايا الأجانب. لتدخل مصر مرحلة جديدة في تاريخها سيطر فيها الأجانب على مقدرات البلاد، وأصبحت مصر مزرعة القطن الشهيرة وفتحت الأسواق أمام استيراد منتجات الدول الغربية وعلى رأسها إنجلترا وشهدت الوقوف بحزم ضد أي محاولة للتنمية الصناعية الجادة.

ولابد من التذكير بقول كرومر الشهير في هذا المجال (كرومر هو الحاكم العسكري لمصر بعد الاحتلال): "من يقارن الحالة الراهنة بالحالة التي كانت منذ 15 سنة، يرى فرقاً ضخماً، فالشوارع التي كانت مكتظة بدكاكين أرباب الصناعات والحرف من غزالين وخياطين وصباغين وخيامين وصانعي أحذية.. قد أصبحت مزدحمة بالمقاهي والدكاكين المليئة بالبضائع الأوروبية، أما الصانع المصري، فقد تضاءل شأنه، وانحطت كفايته على مر الزمن، وفسد لديه الذوق الفني الذي طالما أخرج في العصر القديم المعجزات في مذاخر الصناعة".

وقد شملت الهيمنة الأجنبية بعد الاحتلال الإنجليزي (أدوار الإنتاج والتوزيع جميعاً وكثر المشتركون فيه فصاروا يعدون بمئات الآلاف بعد أن كان عددهم لا يزيد على بضع مئات، أول حكم محمد على.

وقد تعمد الاحتلال القضاء على كل ما من شأنه أن يعود ببعض التقدم الصناعي فأهملت الصناعة ولم تتخذ التدابير الكفيلة برقيها، بل ألغيت البعثات الصناعية إلى الخارج وفرضت في أبريل عام 1901 ضريبة على جميع المصنوعات القطنية في مصر مقدارها 8%، وبالإضافة إلى سياسة فرض الضرائب على المنسوجات الوطنية وغيرها، كان رؤساء المصالح الحكومية من الإنجليز يؤثرون السلع البريطانية ويفضلونها على السلع المصرية..

ومن بين العوامل التي أدت إلى انهيار الصناعة أيضاً أن أصحاب رؤوس الأموال من المصريين فضلوا استثمار مدخراتهم في استصلاح الأراضي وفي الزراعة وصوّر اللود كرومر في تقريره عن عام 1905 تدهور الصناعة هذا، وكتب يقول "إن المنسوجات الأوروبية حلت محل المنسوجات الوطنية، وبانقراض المنسوجات الوطنية أخذت الصناعة الأهلية تنقرض أيضاً"..

والنتيجة التي تخرج بها من هذا العرض هي أنه بانتقال السلطة إلى يد الإنجليز تم توجيه الاقتصاد المصري لخدمة المجتمع الغربي، وظل المجتمع المصري محتفظاً بطابعه الزراعي فترة غير قصيرة.

وأصبح النشاط الاقتصادي يتركز في يد العناصر الأجنبية التي تموله وتشرف عليه وتنهض بشؤونه جميعاً فيما عدا الأعمال البسيطة التي لا يكون جلب من يقوم بها مكلفاً وأصبح المصريون يشعرون بضآلة الدور الذي يقومون به في ميدان هذه الصناعات وينفسون على هؤلاء الأغراب حياتهم الأنيقة، ويرون في نشاطهم الصناعي والتجاري وأرباحه السريعة ابتزازاً لكدهم ومالهم ليس بعده ابتزاز..

حتى دخلت مصر القرن العشرين وهي ترضخ تحت الأموال الأجنبيه التي كانت تمثل أكثر من 90% من الاقتصاد المصري في بداية القرن العشرين.

استُفيد في إعداد هذه السلسلة من المراجع

- د. أمين مصطفي عفيفي عبد الله، تاريخ مصر الاقتصادي والمالي في العصر الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1951.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل