المحتوى الرئيسى

صنَاجة العرب

10/21 22:47

أُطلق هذا اللقب قديما على أعشى قيس لجودة شعره، وصلاحيته للتغنى. وأحسب أن القراء العرب يتفقون معى فى إطلاق هذا الوصف من جديد على أندى وأعذب صوت صافح الأذن العربية حديثا على مدى ستين عاما تماما، صوت فقيد العربية الراحل فاروق شوشة.

لقد عبَر عن ذلك بصدق وشفافية كلمات الكاتب الأديب إيهاب الملاح فى وداعه: «بسبب صوت فاروق شوشة، الذى كان يتهادى عبر الأثير، بعمقه ونبراته الواثقة الهادئة المتأنية، وبإشعاع حروف العربية وتوهجها، نشأت أجيال على محبة الشعر العربى واللغة العربية، أجيال كاملة سعت إلى احتراف العمل الإذاعى وتقديم البرامج الثقافية؛ بسبب فاروق شوشة».

واريتُه الثرى عصر يوم الجمعة، فى التربة المصرية المباركة التى أنبتته، بقرية الشعراء من ضواحى دمياط على شاطئ بحر التاريخ والثقافة، الذى شهد موجاتهما العاتية فى الاتجاهين منذ آلاف السنين؛ التربة الخصبة التى أنبتت بنت الشاطئ، وشوقى ضيف شيخ مؤرخى الأدب ورئيس مجمع الخالدين، ومحمود حافظ شيخ المجمعَيْنِ العلمى واللغوى، وعلى مشرَفة الذى شرَف مصر ورفع اسمها فى العالمين، وعبدالرحمن بدوى المفكر الفيلسوف الذى عَرَفَت له قَدْرَه كلُ الأوساط الفكرية فى العالم، وجلال الدين الحمامصى أحد أبرز النقباء والكتاب الصحفيين فى العالم العربى، كما قدمت للفكر الدينى شرف الدين الدمياطى وأقرانه فى القديم، وأسرة الخضرى فى الحديث، وأحمد بدوى وكيل دار العلوم من شيوخنا المعاصرين، وفاروق شوشة بتقدمته الروحية لأذان الجمعة كل أسبوع فى الإذاعة المصرية، حبذا لو وجدت من يجمعها، كما جمعت مواد «لغتنا الجميلة» بجهود خليجية مشكورة.

لقد حظى فاروق شوشة فى هذه التربة المباركة بمدرسته الأولى، مكتبة أبيه المعلم المثقف، ثم مدرسة دمياط الثانوية، التى تأكد فيها عشقه للشعر وللعربية الجميلة بصحبة الشاعر الدمياطى الدرعمى الموهوب طاهر أبو فاشا، صاحب البرنامج الأشهر «ألف ليلة وليلة» فى إذاعة مصر، وأحسب أنه يرجع إليه الفضل أيضا فى نمو حاسته الإذاعية، التى اجتذبته إلى رحاب «الشريفين» منذ عام 1958، إلى أن صار رئيس الإذاعة المصرية عام 1994، وقد كان يحدثنى ــ رحمه الله ــ كيف كان هذا الأستاذ الغريب الأطوار يعلمهم بالتمثيل والنشيد والحركة معانى الأبيات الشعرية، وما جاء فيها على ألسنة الجن، حتى يخرج مدير المدرسة من مكتبه فزعا لدى سماعه هزيع الجن من أصوات هؤلاء العفاريت الصغار.

بانتقال الفتى إلى بيئة القاهرة، بندواتها، وجمعياتها الأدبية والشعرية، وصالوناتها الثقافية، بدأت مرحلة جديدة تفتقت فيها أكمام موهبته الشعرية، وصقلت فيها أدواته الفنية، وتعمقت فيها ثقافته اللغوية والأدبية، وخاصة على يد شيوخ دار العلوم، فى اللسانيات المعاصرة من إبراهيم أنيس وتمام حسان وعبدالرحمن أيوب، وفى الفكر الفلسفى من إبراهيم اللبان ومحمود قاسم، وفى الأدب واللغة من الشاعر على الجندى والمحاضر على الجندى، والنحاة عباس حسن وعلى النجدى ناصف والشيخ الصوالحى، والنقد المعاصر من غنيمى هلال والكفراوى وأحمد هيكل، وكان الجو الإبداعى فى الكلية مجالا حيويا صال فيه الفتى وجال، حتى تخرج فيها عام 1956م، ودرس التربية ونمى محصوله فى الإنجليزية، مع إلمام تام بالفرنسية؛ فاستقامت له ثقافة معاصرة وتتوج موروثه بدءا من الشعر الجاهلى حتى أحمد شوقى الذى كان يكاد يحفظ كل إنتاجه الشعرى- رحمه الله.

كل أولئك أتاح له دخول الإذاعة المصرية من أوسع أبوابها عام 1958، ليشرب المهنة مع الحديدى، ويتعاين ثقافيا وفنيا مع محمود حسن إسماعيل، ويطالع الناس فى منتصف الستينيات بــ «لغتنا الجميلة» الذى به عرفه كل المستمعين العرب من المحيط إلى الخليج، حتى كاد يغطى على عبقريته الحوارية فى «الأمسيات الثقافية»، وعلى إسهاماته الصحفية فى مصر والخارج، وبخاصة الكويت التى حظيت به حينا، وفى الإمارات التى رأس فيها لجنة حماية اللغة العربية.

ومنذ منتصف الستينيات توالت دواوينه الشعرية حتى بلغت خمسة عشر ديوانا، بمعدل ديوان كل ثلاث سنوات تقريبا وهى خصوبة ملحوظة، وذلك برغم انشغاله بالعمل الإذاعى والإدارى؛ إذ عمل ــ بعد التقاعد ــ أستاذا للأدب فى الجامعة الأمريكية، بما تطلبته من دراسات واختيارات متعددة فى شعر الحب، والمديح النبوى وغيرهما.

وفى شعره سمات تميزه وتقرِبه من الحداثة، وإن أمكن انخراطه فى مدرسة دار العلوم الشعرية التى بدأت بالجارم، وأفضت إليه بطعم حداثى، وقد عُنى كما فعل مثله الأعلى شوقى بشعر الأطفال، ونظم أكثر من ثلاثة دواوين يخاطب الجيل الجديد فى أشخاص حفدته.

Comments

عاجل