المحتوى الرئيسى

"آخر أيام المدينة".. السينما كما نحبها أن تكون

10/21 20:15

اترك كاميراتك مضاءة، فلا بدّ أن يحصل شيء ما في هذه المدينة!

ربما هذا ما كان يدور في مخيلة تامر السعيد، عندما بدأ بالتحضير لفيلمه "آخر أيام المدينة"، فشغّل كاميرته لسنوات وانتظر بأناةِ صيادٍ يؤمن بكرم الماء، فحمل صنّارته كل يوم ورماها في حضن مدينة بنهر عميق، صبر وترك الحكايا لتعلق بعدسته المفتوحة حتى حوافها. انتظر مدينته ليحصل فيها شيء، فحصلت ثورة!

في آخر أيام المدينة، تشّوف للمستقبل، توق للتغير، حلم بالخلاص من موات قدري. منذ أن بدأ تامر السعيد بتحسس مشروعه، الذي امتد لعشر سنوات، وهو يستشعر ذبذبات التغير، يتخيلها فتحدث، ينتظرها فتأتي، مع إنه سجّل دراماه لتبدو لا قصدية، لا حكائية، مع هذا نجح بخلط الأمزجة السردية للحكاية ما بين التسجيلي والروائي، ليظهر الفيلم مجرد يوميات لبطل يعيش تفاصيله المكررة، يسير بالطريق ذاته، ويشاهد البشر أنفسهم، شحاذيهم، مجانينهم، ثوارهم، مؤمنيهم وأفّاقيهم، وطبعا تحضر السلطة بتنويعاتها، قوات أمن، شرطة، ومخابرات.

الفيلم بحبكته ليس جديداً، فهو فيلم داخل فيلم، كأنه مجرد “diaries” صنعها مخرج مخاتل، عن ثلاثة شبان يريدون صناعة أفلام عن مدنهم، يريدون التقاط تلك المدن، إمساك روحيتها، واشتمام عبق تلك الروح، لكن الجديد هنا أن المخرج تنحى، ترك الحكاية تسير بمحاذاة شخصياته، ليبدو حجم تدخله بمسار الأحداث ضعيفاً، كأنه لا يقصد التدخل، ولا ترتيب الأمكنة، ولا ملاحقة الحدث، ولا فرض حركة البشر والتقاط ما يريد بالظبط من حواراتهم، يمارس خدعته باحتراف كبير، فنشعر أنه اكتفى بتسجيل ما حصل بحيادية، كأنه شاهد صامت، فيخلط المخرج حياة بطله بأحداث المدينة وبحيوات صديقيه اللبناني والعراقي، فنشعر نحن أن الحكاية حكايتنا، وأنّا كلنا أبطال في حياتنا السلبية هذه، في مدننا المغدورة، تمر بنا حياتنا، كأننا لم نعشها سوى متفرجين.

في الفيلم، تجسد المدينة الشخصية الرئيسة، كأنها المحرك الخفي لأحداث تتوالى، هي من يقوم بالفعل، فهي التي تصحو كل نهار، لتوسم حياة البطل بجديدها، تقرر المدينة أن تنفي الحبيبة، لأنها مدينة ضد الحب، وضد القبلات المعلنة، فتغادر الحبيبة، تقرر المدينة أن تهد بيت البطل، لأنها مدينة تتداعى وتتغير بدون ضابط ولا منطق، تقرر المدينة أن تموت الأم ويسافر الأصدقاء، فتفعل!

شخصيات الفيلم الذي يصنعه خالد، بطل الفيلم، طهرانية حدّ التصوف والمثالية، كأن الفن ملجأ يقي من قهر الواقع، كأنهم بطوباويتهم يناقضون حسّية مدنهم، فجورها الأخلاقي، حروبها، قتلاها، كأنهم يقدمون واقعا موازيا بديلا، كأن لا خلاص إلا بالفنون وقدرة الفن على تخصيب الجمال، حتى في أسوأ أشكال البشاعة، فنحن في قلب حكاية لمخرج صموت حتى الخرس، لا يتقن سوى الصورة والحكي بالصورة، تلتقط شخصياته شفافيته ومثاليته تلك، فيسلمونه أنفسهم طائعين، يحكون أمام الكاميرا بألفة لا يمكن تزييفها، فقد وثقت فيه تلك الشخصيات لدرجة، تركت عدسته لتقترب من حدقات أعينهم، ومسامات بشرتهم، لتعكس النبض الخائف في أرواحهم المنهكة.

في "آخر أيام المدينة" تسير الحكاية باعتيادية، بدون سرد تقليدي، وذرى درامية، لكن عدسة تامر السعيد تأسرك، وتفاهمه مع شريك حقيقي هو مدير التصوير باسم فياض، تفاهم لا يمكن تزييفه، فعين شريكي الرؤية، تحولت إلى عدسة شرهة، عدسة استقصائية، متقلبة، تلتهم ما تراه، تلاحق كل أشكال العنف الذي تمارسه المدينة، عنف عمراني لمدينة آخاذة، مدينة تتداعي جمالياً/عمرانياً بسبب فشل حكومي، وفشل انساني، المدينة الهرمة التي حضرت قبل التاريخ تغزوها البشاعة، والانهيارات، مدينة مرقعة الوجه بملصقات دعائية، بمانيكانات بلاستك بدلا من المنحوتات، بدجاج في الشقق، بأسانسورات تصعد فقط بقدرة الأدعية!

مدينة تمارس عنفها بلا هوادة. عنف صوتي أيضاً، فالضجيج الذي تضخه المدينة في وعي البطل، ليس دليل حياة، انه ضجيج انتهاكي، يسلبه مساحته الخاصة، يعجنه بواقع فظ ومبتذل، يقوده للجنون، وللنفي عن أرصفتها، فالمدينة الزاعقة بزحام سياراتها، بصخب الثرثرات، ومجالس الافتاء على المقاهي، والتسجيلات الرديئة لأصوات الداعين، والمقرئين، والضجيج الاعلامي "الردحي" في التلفزيونات والاذاعات، مخلوطاً بالشعارات السياسية البلهاء والوطنيات الزائفة، وضجيج مشجعي كرة القدم بليلهم وفرحهم ونيرانهم المجنونة المشتعلة بسماء المدينة، تلك مدينة تتداعى تحت وقع حناجر بُحت من الصراخ ضد النظام، ومع النظام، للثورة وضد الثورة، لله وللمتاجرين باسم الله.

في الفيلم هناك اصرار على أنوثة المدن، وذكورية الساردين، فبيروت عجوز عاهرة تجاوزت الثمانين، ومصرة على "الليفتينغ"، وبغداد مدينة القتلى والخطاطين والشعراء والرايات السود، لا يجب أن تترك، لأن الحبيبة لا تُهجر، وفي مصر ومع خالد يشتبك وجه القاهرة بوجه الأم وبوجه الحبيبة، الذي يفقدهما البطل عندما يفقد المدينة وبضربة واحدة.

عرض "آخر أيام المدينة" في مهرجان "السينما الجديدة" في مونتريال، والتوصيف "سينما جديدة" ينطبق بشدة على ما ستحصل عليه بعد مشاهدتك للفيلم، فهو "صورّي" يتذكر الكلام عند الضرورة، وهو جديد، بمعنى عدم خضوعه لتصنيفات صارمة، كونه ليس تسجيلياً للآخر، ليس روائيا للآخر، والتجريب فيه هادئ دون افتعال، او استعراض عضلات تقني.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل