المحتوى الرئيسى

ياسمينة خضرا: القذافي راوياً لحظاته الأخيرة

10/21 00:35

لطالما كانت شخصيّة «الديكتاتور» إحدى الشخصيّات الإشكالية الأكثر إثارة لتناولها في الأدب، وذلك لما تنطوي عليه من تناقضات، وغموض يغري الكثير من الكتّاب بمحاولة الغوص فيها، والعمل على تفسيرها من الداخل. وبرغم ذلك، حافظت الرواية العربية على مسافة من شخصيّة الديكتاتور، التي لم تظهر إلّا لماماً، كطيف باهت، في بعض الأعمال التي تناولت أنظمة الحكم العربية الفاسدة والمستبدة.

تبدّل الأمر منذ مطلع العام 2011، إثر ما اصطلح على تسميته بـ «الربيع العربي» حيث راحت تتوالى الكتابات التي تحاول مقاربة شخصيّات زعماء دول هذا «الربيع»، إلا أنّ النتائج كانت تأتي باهتةً أيضاً، إمّا بسبب السطحية التي تمّ تناول تلك الشخصيات بها، أو بسبب عدم القدرة على المقاربة الموضوعية لها، ما جعل الكثير من الكتّاب يتناولونها بمنطق السخرية، أو الثأر من الديكتاتور الذي فقد سطوته التي أرهبتهم زمناً طويلاً. وسط هذا كلّه تأتي رواية «ليلة الريّس الأخيرة» (دار الساقي ـ ترجمة أنطوان سركيس ـ 2016) للروائي الجزائري ياسمينة خضرا (الاسم الأنثوي المستعار الذي اعتمده محمد مولسهول المولود في 1955 لتوقيع كتاباته) لتروي لنا الساعات الأخيرة من حياة «الأخ القائد»، الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي، في تحدّ جديد يقرّر مؤلف «سنونوات كابل» خوضه، فيما الحدث لا يزال طازجاً، واللحظات الأخيرة من حياة القذافي لا تزال ماثلة في الأذهان، بعدما وثّقتها كاميرات معدِميه، لتبقى كلماته الأخيرة حاضرة وهو يسأل معتقِليه باستهجان: «شنو فيه؟!»، بعدما سأل المنتفضين عليه في خطابه الشهير 22 شباط/ فبراير 2011: «من أنتم؟». هنا مكمن التحدّي الذي يخوضه خضرا، بعدما اختار تقمّص شخصيّة الزعيم الليبي الراحل ليروي لنا هواجسه في ساعاته الأخيرة قبل مقتله، حيث لن يكون ثمّة حدث مجهول ينتظر القارئ نهايته، فالحكاية معروفة، والنهاية تابعها القرّاء، بكلّ تفاصيلها، عبر بثّ شبه مباشر، وبالتالي لم يبق للروائي غير خياله يعمله في محاولة مقاربة هواجس القذافي في ساعاته الأخيرة.

يختار كاتب «بماذا تحلم الذئاب» ضمير المتكلّم في روايته ليضع القارئ وجهاً لوجه أمام القذافي في مخبئه، في مدينة سرت، وبذلك يتيح له التلصص حتى على ما كان يفكّر فيه الرجل في ذلك اليوم. الديكتاتور الذي رأى أنّ العالم برمّته صغير عليه، يختبئ في غرفة بأربعة جدران، هي ثيمة تراجيدية بدون شك، وتنطوي على عوالم روائية بامتياز، لكنّها ليست ثيمة سهلة التناول، خاصّة حين يكون صوت بطلها لا يزال حاضراً بنبرته المتعالية المتعجرفة، الساخرة حدّ تسفيه كلّ ما هو خارج ذاته. غير أنّ خضرا ينجح منذ اللحظات الأولى بتغييب صوته الخاص، وبذلك يتركنا مع القذافي نصغي إليه وهو يقول: «لا أجيد إلا الإصغاء إلى هذا الصوت الذي يناديني من أعماق كياني، ويهز أغوار روحي كما يتلاعب عازف ماهر بأوتار قيثارة».

يستند الراوي إلى سيرة القذافي لملء الفراغات الناجمة عن عزلة لا يملك أحد تفاصيلها، وينجح وهو يقوم بذلك بتقمّص شخصيّة الرجل، حتى في أحاديثه الوجدانية مع الأفراد القلائل من المخلصين له، الباقين إلى جواره بانتظار وصول ابنه المعتصم. فالكاتب الذي خبر الحياة العسكرية مذ كان في التاسعة من عمره، والذي أمضى في خدمة الجيش الجزائري 36 سنة، قبل أن يختار الاعتزال متفرغاً للكتابة، يدرك تماماً ماهية المكونات الأساسية لشخصيّة القذافي، خاصّة أنّه، كبدويّ، خبر حياة الفقر وقساوة الصحراء، والتي تعتبر أيضاً من الثيمات الأساسية المكونة لشخصيّة زعيم لا يتردد، حتى ضمن مخبئه السريّ، أن يقول لمرافق اللواء عبد الفتاح يونس، الذي جيء به إليه بعد اعتقاله إثر اغتيال اللواء يونس بتهمة العمالة المزدوجة، حين يطلب استــعادة موقعه بين جنود الزعيم، مؤكداً أنه يعرف كيف يكون أهلاً لثقته: «لقد سقطت هذه الكلمة السامّة من قاموسي قبل أن أتعلم المشي. الثقة موت صغير».

إذاً ينجح مؤلف رواية «الهجوم» (حوّلت إلى فيلم سينمائي حاز الجائزة الدولية لأفضل فيلم مقتبس عن رواية، في معرض فرانكفورت للكتاب 2013) بتقمّصه لشخصيّة القذافي، جاعلاً من روايته أقرب إلى سيرة ذاتية لديكتاتور يستعيد في أشدّ لحظات حياته قسوة مسيرة طويلة، ابتدأت من مولده لأب مجهول، وستنتهي بمقتله على أيدي أفراد من شعب كان لسنوات طوال يهتف باسمه. ببراعة روائي خبير يملأ خضرا فراغات الحكايات المفصلية في حياة القذافي، كرفضه شابّاً حين تقدّم لخطبة الفتاة التي أحب، والثورة التي كان يخطط لها أثناء خدمته العسكرية ضدّ النظام الملكي، متأثراً بالزعيم المصري جمال عبد الناصر، وغيرها من الحكايات التي يسردها على لسان القذافي كاستعادات شخصيّة تصل حدّ الإقناع بأنّ ما نسجه الروائي عن الحلم الملازم للقذافي بفان غوغ، الذي قطع أذنه انتقاماً لفقره، لم يكن خيالاً روائياً بل حقيقة لا مجال للتشكيك فيها.

Comments

عاجل