المحتوى الرئيسى

إدوارد لويس.. حين تخلق الرواية كاتبها

10/20 23:32

هل تخلق الرواية كاتبها؟ هذا ما جرى للفرنسي إدوارد لويس. صنعته الرواية وهيأت له سبل الوجود. منحته شخصية جديدة، وصفات وملامح جديدة، جسدية ونفسية، ذهنية وأخلاقية.

كان إدوارد لويس شخصاً معيناً فتحول إلى شخص آخر. لا، لم يجر عمليات جراحية ولم يتعرض لعمليات غسيل دماغ. لقد كذب على نفسه. وقال إنه شخص آخر. أراد أن يتحوّل إلى هذا الشخص الآخر. فصار كذلك. حوّل الكذبة إلى حقيقة. هذا الشخص الآخر، الجديد، أصبح أكثر واقعية من القديم. بات عليه، وعلى الآخرين، أن ينسوا القديم ويتآلفوا مع نسخته الجديدة. كان اسمه "إدي بيلغول" فصار إدوارد لويس. كان سميناً فنحف. ترك وراءه سلوكياته وأفكاره وعاداته وتبعات تربيته البروليتارية القديمة وتحوّل برجوازياً مدينياً. تخلّى عن لغته الريفية الفظّة واكتسب لغة مدينية مهذبة.

بدأ باسمه: "كان اسمي، إدي، اسماً شعبياً مبتذلاً. كان أبي اختاره لي لإعجابه بالأميركيين". ولكي تنجح شخصيته الجديدة، كان لا بدّ أن يسجلها، يوثق ظهورها، نموها، اكتمالها. كان تحوّله، الفردي والاجتماعي، أشبه بحبكة روائية تبحث عمّن يكتبها، فتنطح للمهمة.

نالت رواية "وداعاً أدي بيلغول"، مكانة غير مسبوقة في قائمة الروايات الأكثر مبيعاً في فرنسا فور صدورها، وترجمت إلى أكثر من عشرين لغة حتى الآن. هي السيرة الذاتية التي توثق انتقال إدي بيلغول من ذاته القديمة إلى ذاته الجديدة. من الطفل الذي كان يتعرّض للضرب على يد رفاقه في المدرسة والتعنيف على يد الأهل في البيت، كل ذلك لأنه هادئ، ناعم، منطوٍ على ذاته، يتصرّف كالفتيات، إلى شاب متحرّر بعد أن رحل عن بيته وقريته واستقر في باريس وصار جامعياً مثقفاً، منفتحاً وشجاعاً لا يتردد في الإفصاح عن رأيه في كلّ شيء.

كان الغضب تراكم في أعماق الفتى الفرنسي الريفي إذ بقي محاصراً من محيط يكنّ له العداء، لا لشيء سوى أنه لا يشبههم. ومن أثر ذلك تخمّرت في نفسه كراهية شديدة لذلك المحيط، ولكن لنفسه أيضاً، هو العاجز، السقيم، الضعيف، الذي لا يقدر على القيام بأي شيء. ولهذا فهو حين تخلّى عن ماضيه، وترك أهله وقريته ومحيطه هناك فإنه ترك نفسه القديمة أيضاً، تخلى عنها للأبد. انفصل عن ذلك الفتى الهش، الخائف، المتردد وتبنى ذاتاً جديدة. ودع بيلغول واستقبل إدوارد. يمكن للغضب أن يكون مدمّراً، يهلك النفس، ولكنه يمكن، إن أحسن استثماره، أن يتحوّل طاقة خلاقة تحرّر الذات وتطلق العنان للإبداع. في الرواية، يحفر الكاتب الأرض بيديه ويستخرج الأحجارالكريمة المدفونة هناك. يزيل عنها التراب، يصقلها، ويعرضها للشمس والريح، في رواية، أنيقة، أخاذة، صادمة، لا ترحم.

رواية متحرّكة، مكتوبة من الداخل، عما يعني أن تكون كائناً متحرّراً من ذاتك. وهي في الوقت نفسه نص بارع في غوصه إلى القاع الاجتماعي ومرآة مبهرة للفوارق الطبقية وعرض للسلوك البشري، المليء بالقيم الرجعية حتى بعد أن دخلنا إلى الألفية الثالثة بعد ميلاد المسيح الذي كان أراد أن ينقذنا، نحن البشر، من خطايانا. وأين؟ في بلد التنوير والحريات والمساواة.

والكاتب من أشدّ المعجبين بأفكار عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. ويبدو تأثير بورديو جلياً في نصه الروائي، في الكيفية التي ينغرس فيها السلوك الطبقي في وعي، ولاوعي، الأفراد، وينعكس في الملبس والمأكل والأذواق والإشارات وحركات الجسد واللغة. وهذه الأخيرة هي المجال الأكثر تأثيراً، وتأثراً، بذلك. وهو لا يُخفي قناعته في أن لغة الأحياء الفقيرة تنضج بالخشونة والذكورية والعنف والشتائم والجنس.

أراد الكاتب أن يهرب من تلك اللغة ومن ذلك المحيط. أراد أن ينظف لغته من العنف والشتائم ويطهّر جسده من الخشونة التي تهاجمه في كل لحظة، وتحاول أن تستولي عليه وتنتهكه وتغتصبه، هو المثلي الجنسية. أراد أن يكون في مكان يستوعب شخصاً لا يستطيع أن يكون فظاً وعدوانياً، ولا يريد أن يكون كذلك. أن يتقبّله الناس مثلما هو: مثلي الجنس، رقيق، مهذب، يحب الأناقة والثقافة والرقي والذوق الرفيع. هل هذا كثير؟

ولكن هل يعني هذا أن الولد كان متمرداً منذا البداية، وأنه حمل لواء الثورة والانقلاب، على الذات والمجتمع، منذ أن وعي ما يحيط به؟ لا، أبداً. الأمر تطوّر مع الوقت. الضغوط الخارجية والتآكل الداخلي، والنقمة والخوف والغضب والاحتقان، كل ذلك تراكم إلى أن انفجر. كان سعيه الأساس هو أن يندمج مع المحيط لا أن ينفصل عنه. أن يتقبّله الآخرون لا أن يسوموه العذاب. ألا يمارسوا بحقه التعنيف والتشهير والنبذ والبطش. كان يريد أن يعيش حياة عادية، مثله مثل غيره، من دون أن ينغّص عليه الآخرون العيش. كان يريد أن يدرس وينجح ويجعل أهله يفتخرون به. لم يكن يفكر قط بالرحيل أو الانفصال. لم يكن مثل بيلي أليوت، في الرواية الشهيرة لميلفن بيرجيس، الذي كان يهوى الرقص ويلقى المعارضة من الأهل والمحيط فاضطر للهرب ليمارس هوايته وينجح ويصبح راقصاً مشهوراً ولامعاً. كان أدي يريد أن يكون قوياً وخشناً كغيره ويمارس كرة القدم مثل أخيه ويتصرف بفظاظة مثل أبيه، ولكنه لم يقدر أن يكون كذلك. لم يكن خلق ليكون كذلك. كانت شخصيته مختلفة وكان سلوكه مغايراً فلم يتقبله الآخرون. ليس هو مَن رفضهم، هم رفضوه.

المجتمع الذي ولد في ربوعه كان صارماً في معاييره. أحكامه حادة وقاطعة ونهائية. موازينه صارمة لا تقبل المساومة. فإما أن تكون كما يريد أو لا تكون. ليس هناك من حل وسط. هذا مجتمع ذكوري، أبوي، عنيف، ويريد لمن يريد أن يعيش في كنفه أن يكون على هذه الصورة. لم يكن في مقدور الفتى الأنثوي النزعة، المتأرجح، القلق في الروح والجسد، أن يتكيف ولم يكن أمامه، لكي يعيش، من سبيل سوى الهرب. فإما أن يهرب لكي ينفذ بجلده أو أنه سيتعرض للهلاك. سيسحقه المجتمع دون رحمة. سيكون فريسة سهلة لعنف لا يرحم يأتيه من كل صوب. من البيت والمدرسة والشارع.

هرب أدي. هرب من أبويه وأخيه ورفاق دربه ومعلميه. هرب من قريته، من الطبقة الفقيرة التي ترعرع في صفوفها. هرب إلى باريس. إلى أحضان الطبقة الوسطى التي استقبلته بالترحاب. الطبقة الوسطى أنقذتني. سيقول في ما بعد. بثقافتها وتسامحها ومرونتها ومدنيتها.

عادة ما يعتبر الهروب ضعفاً، ولكنه في حالة أدي، كان قوة. كان قراراً مثيراً يتطلب شجاعة. أنقذه الهرب من الهلاك، ومن ثم منه المجال لكي يمارس إنسانيته على أكمل وجه ويتفوق ويبدع. وصار إدوارد لويس كاتباً يشار له بالبنان، وملهماً. "آمل أن يكون تصرفي مثالاً للآخرين الذين يعيشون محنة كتلك التي عشتها". سيقول الكاتب.

لقد ولد شخص جديد في مكان جديد مختلفاً عن شخصه الذي ولد في زمن سابق وفي مكان آخر. حاول مرة أن يتصل بأمه، ولكنها رفضت التعامل معه، رفضت شخصيته الجديدة. وهو رفض أن يرضخ لها لعدم قبولها به، كما يشاء هو، لا كما تشاء هي. قالت إنها تخجل منه لأنه أصبح برجوازياً وأن المدينة أفسدته.

هكذا تبرز سلطة المجتمع الطبقي وكأنها تلاحق الفرد أنى ارتحل. لن تتركه ينعم بحريته. ستحاول أن تغرز مخالبها فيه أينما عثرت عليه. هي تلك السلطة التي قال عنها ميشيل فوكو إنها تترسخ في فضاء المجتمع على شكل قوى ميكروسكوبية متوزعة في الأرجاء التي تحيط بنا، أدركنا ذلك أم لم ندرك.

"أنا أكره الأدب الذي يمجّد الأوساط البروليتارية الفقيرة ويخلع عليها رداء رومانسياً". يقول الروائي. حقاً. ليس في الأمر أية رومانسية. هناك بؤس وقذارة. الناس عالقون هناك. ليس لأن المكان يستهويهم بل لأنهم عاجزون عن الانفلات منه. لا يملكون القدرة ولا الشجاعة للهروب. لا يحلمون بأفق أبعد، بمستقلّ أحسن. إنهم جبناء وخانعون وقانعون بالتفاهات التي يتمرّغون فيها. الحديث عن البروليتاريا وقوّتها التحررية. وكل هذا اللغو المضحك ليس سوى إسطورة صنعها ناس عاطلون عن العمل.

في زيارته إلى النروج لتوقيع روايته جرى نقاش حاد بينه وبين كاتب نروجي ماركسي. اتهمه الأخير بخيانة طبقته فردّ عليه إدوارد بالاستهزاء وبأنه لا يعرف عما يتحدث لأنه لا يعرف ما هي الطبقة من الأساس. قال له إننا نحن من نخلق، وينبغي أن نخلق، أنفسنا. الذات الحقيقية والصادقة هي تلك التي نبنيها ونشيدها بإرادتنا الفردية. بطموحنا الفردي، برغبتنا في تجاوز ذواتنا وطبقتنا ومحيطنا.

وهذا هو ما فعله. كان فتى مهملاً، مقموعاً في الريف الفرنسي فتحوّل إلى كاتب تترجم كتبه إلى اللغات في أرجاء العالم الرحبة.

"كان إدي مخلوقاً سلبياً صنعه الآخرون، أما إدوارد فهو من صنعي". يقول. هو الذي خلق إدوارد وصقله وأطلق ساقيه للريح. ولم يكن هذا سهلاً بكل تأكيد. تطلب الأمر إرادة فولاذية وجهداً متواصلاً وعملاً دؤوباً وصبرأً من طينة صبر أيوب.

حين جاء إلى باريس كان كل شيء جديداً عليه. في كافتيريا الجامعة كانوا يتحدثون عن أدباء لم يكن سمع بهم من قبل. يسمع إسم صموئيل بيكيت، فيهرع بعد ذلك إلى البيت ويفتح غوغل على مصراعيه ويبرح يقرأ كل شيء عنه. في ضغون أشهر صار يعرف عن الآداب والأدباء ما يفوق التصوّر. لقد بنى نفسه من العدم. بنى نفسه، ونجح.

ولكن هل تحرّر نهائياً من ماضيه؟ هل هذا ممكن أصلاً؟ لا. ما زال يشعر بالخوف في أعماقه. خوف ورثه مما عاناه وتعرّض له هناك. يقول إنه يخاف مثلاً أن يمشي في الشارع ليلاً فينقض عليه أحدهم ليضربه أو يغتصبه. هذا خوف وجودي يستوطنه. خوف مزمن. "لا يشعر به سوى المثليون". ولهذا فإن ثمة غضباً عارماً أيضاً يقبع في أعماقه. غضب من أولئك الذين ألحقوا به الأذى طوال سنوات عمره الأولى، وهس السنوات التي أسست لشخصيته اللاحقة. غضب مشتقّ من الجو العام الذي يتفشى فيه الغضب. كانت أمه لا تكفّ عن الصراخ وتروح تشتم رجال الشرطة والعرب والجيران والساسة وبرامج التلفزيون، ولكنها لا تبرح مكانها.

هناك في ذلك المكان البائس الكل غاضبون. غير أنهم عاجزون عن تصريف الغضب بما يفيدهم. إنهم محبطون ولكنهم مستسلمون للواقع. "أنا جعلت من الغضب قوة حرّرت بها نفسي". روايتي هي نتاج ذلك الغضب. لم يعد الغضب بالنسبة لي دافعاً للعنف بل طريق للخلق والإبداع.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل