المحتوى الرئيسى

نحن والسوق الدولية للقمامة | المصري اليوم

10/20 02:30

«العاصمة النرويجية أوسلو تعانى من مشكلة قمامة»!

كان ذلك عنوانا لأكثر من تقرير قرأته وأنا أدور حول موضوع «الالتهام الذاتى فى الخلايا الحية» الذى كان وراء منح اليابانى «يوشينورى أوسومى» جائزة نوبل فى الطب لهذا العام، وقد أوضحت، الخميس الفائت، أن تعبير «الالتهام الذاتى» المأخوذ من دمج كلمتين يونانيتين قديمتين تعنيان «أكل الذات» لا يعنى أبدا أن الخلية تأكل بعض مكوناتها السليمة، بل الأصح أن هذا «الالتهام الذاتى» ليس إلا منظومة نظافة تقوم فيها الخلية بإعادة تدوير نفاياتها لتخليق مواد جديدة تُغذِّى الخلية وتجدد حيويتها، وتضمن استدامة توازن الطاقة داخلها.

ما سبق ليس رأيا شخصيا، بل رؤية لذوى الشأن العلمى أنفسهم، وأولهم «أوسومى» الذى قال ضمن تصريحاته فى أعقاب فوزه بالجائزة المرموقة: «اخترت التركيز على النظام الذى يخلص الخلية من النفايات وقت أن كان هذا الموضوع خارج اهتمام البحث العلمى». أما «جوليان زيراث»، عالم الأحياء السويدى، أحد أعضاء لجنة نوبل، فقال فى إيضاح عمل أوسومى: «يحتاج الإنسان أن يغير فى جسمه من 200 إلى 300 جرام من البروتين يوميا، لكن ما يأكله- فى المتوسط- لا يكفى لتكوين بروتينات جديدة تعوض القديمة، ولهذا تنشأ آلية يبحث فيها الجسم عن بروتينات من داخله، تكون تالفة أو شائخة، ويقوم بإعادة تدويرها للحصول على بروتينات جديدة شديدة التركيب، بشكل مُستدام يُمكننا من العيش». فما شأن معاناة النرويج مع القمامة بذلك؟

غالبا يمكن أن يتبادر إلى أذهاننا المثقلة بمعضلة الزبالة فى بلدنا- برغم تحسنها النسبى- أن النرويج تعانى من كميات زائدة منها، تحار فى تصريفها. والصحيح هو العكس! فالنرويج تعانى من نقص فى الزبالة يُعييها تعويضه، مثلها مثل السويد ومعظم الدول الإسكندنافية، وهى تقوم حاليا باللجوء إلى استيراد ملايين أطنان الزبالة من دول أخرى، مثل بريطانيا وإيطاليا، وتتطلع إلى استيراد المزيد من زبالة الولايات المتحدة، لتعويض نقص الزبالة الذى تعانيه، فما أسباب النقص؟

هذا السؤال وجهه الإسكندنافيون لأنفسهم، بحثوا وفكروا، ودققوا فتوصلوا إلى أن نقص الزبالة لديهم ناتج من أمرين: أولهما قلة ما يُخلِّفه مواطنو هذه البلدان من قمامة نتيجة ضبط استهلاكهم فى حدود ماهو لازم وضرورى، وثانيهما حرق نسبة كبيرة من الزبالة فى محطات حرق مغلقة للحصول على طاقة حرارية تُبخِّر الماء، فيدير البخار توربينات تُولِّد الكهرباء. والطاقة الحرارية والكهرباء الناتجتين من هذه العملية، من قمامة العاصمة النرويجية وحدها- على سبيل المثال- تكفيان لتدفئة نصف بيوت المدينة وتغطية احتياجاتها المختلفة من الكهرباء. وهذا يتكرر فى بقية الدول الإسكندنافية، كما يتنامى فى بلدان أوروبية أخرى كالنمسا وألمانيا، ويتهيأ للصعود عملاقا فى الصين!

ولبيان حجم أزمة الزبالة الإسكندنافية، فإن ما تنتجه دول الشمال الأوروبى من الزبالة سنويا يُقدَّر بحوالى 150 مليون طن سنويا، بينما تستهلك محطات حرق النفايات لإنتاج الكهرباء حوالى 700 مليون طن، وبدون استيراد الزبالة يصبح موقف هذه المحطات فى وضع حرج، خاصة وقد صار الاعتماد عليها أساسيا، فيما لا يتوقف إنشاء المزيد منها فى السويد على سبيل المثال الأوضح.

ومن هنا نفهم لماذا نشأت تسميات مثل: «تجارة النفايات العالمية» و«التشريعات المُنظِّمة لاستيراد وتصدير الزبالة»، فوراءها أساطيل سفن عملاقة تجوب البحار بحمولاتها «الثمينة»، وأرتال طويلة من الشاحنات التابعة لها تمضى على أفخر طرق العالم، نحو البلدان الأكثر تقدما، والتى ببعد نظرها المستقبلى أدركت أن استيراد القمامة ما هو إلا حل مؤقت، بينما الحل الحقيقى المُستدام لن يكون إلا من داخلها..

السويد المجاورة للنرويج، والتى تقود «ثورة» فى إعادة تدوير القمامة، وصلت إلى إعادة تدوير قمامتها بنسبة 99%، وتطمح إلى 100 %، وقد قررت أن تتبع أقصى الحكمة والدقة والانضباط فى استثمار زبالتها، بما لا يُلجئها إلى الارتهان لاستيراد زبالة الآخرين، وقد بدأت بالفعل، ففصل مكونات زبالتها يتم من المنبع، فى أكياس زبالة منزلية ملونة لكل نوع من المخلفات، وصناديق زبالة ملونة فى الشوارع تُيسِّر الفرز، وهذه كلها يتم شفطها بتيار هوائى داخل شبكة مغلقة من الأنابيب تحت الأرض إلى محطات تجميع لا تبعد أكثر من 300 متر من كل تجمُّع سكنى، ومنها إلى محطات إعادة التدوير، وبدلا من حرق نسبة كبيرة من القمامة فى محطات توليد الكهرباء، تتجه إلى خفض هذه النسبة، مع زيادة نسبة إعادة التدوير لاستخراج مواد جديدة ومنتجات نافعة، أما فضلات الطعام والمخلفات النباتية فتوضع فى مستودعات تخمُّر تُنتج السماد الطبيعى أو «الكومبوست» للزراعة، ويتصاعد منها «الغاز الحيوى» الذى يتحول إلى وقود لمركبات النقل العام فى المدينة وقطارات الضواحى!

إنها لدهشة بالغة لمن يتأمل هذا المُخطط السويدى لمراجعة وتطوير أساليب جمع وفصل وتقليل نسب حرق مخلفاتها مقارنة، بما يحدث داخل الخلايا الحية، ففى السويد كما فى الخلية كل مراحل جمع وفصل المخلفات من البيوت أو الشوارع ثم نقلها وحرقها وإعادة تدويرها تتم فى منظومة مغلقة، تماما كما داخل حويصلات عزل النفايات وإعادة تدويرها فى الخلية.

وكما أن الخلية لا تُحوِّل معظم نفاياتها إلى وقود يمدها بالطاقة، بل تنتج مع الوقود، وبنسب متوازنة، مواد لتغذية الخلية وبروتينات لتجديدها، فإن السويد تتجه لتقليل نسبة ما تحرقه من زبالتها للحصول على الطاقة، وتستعيض عن ذلك بالحصول عليها من مصادر أخرى نظيفة ومُستدامة كطاقة الرياح وضوء الشمس وحركة الأمواج، ومن ثم تكتفى بقمامتها وتستغنى عن زبالة الآخرين!

أمام كل ذلك، أجد نفسى تلقائيا فى مواجهة الشعور بالألم لأننا لا نزال نُكدِّس زبالتنا على ضفاف الترع ونحرق ما تيسر منها هدرا «ع المكشوف» فنزيد تلوث أجوائنا التى تئن من التلوث، وليس حرق قش الأرز ومعاودة ظهور «السحابة السوداء» إلا العنوان الأبرز على عجزنا عن التعامل الرشيد مع «الزبالة» التى يراها العالم المتنور ثروة من الطاقة والمواد المفيدة، فنحن لا نحرقها حرقا مُغطَّى للحصول على طاقة بأقل قدر من تلويث البيئة، ولا نُعيد تدويرها للحصول على ما يحصل عليه غيرنا من كنوزها، ولا حتى نستطيع بيعها فى سوق الزبالة العالمى نظرا لتشعُّثها وفوضاها وصعوبة فرزها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل