المحتوى الرئيسى

محمد كبة: رحيل البراءة والعزلة

10/20 00:42

وحيداً إلا من آلامه، مات محمد الكبة في غرفة منعزلة في مخيم برج البراجنة. ظل يتلوى بصبر عجيب، ولم يدرِ ان اوجاعه هي السرطان الذي يرتع في أحشائه ويفتك بخلايا جسده. كانت أيام حياته كلها سعياً بين الاغتراب والمنفى. في لبنان عاش الغربة عن وطنه كفلسطيني. وفي المخيم الفلسطيني عانى غربة الاختلاف وعدم الامتثال لتقليدية المجتمع وركوده. وفي ألمانيا قاسى اغتراباً وجودياً فظيعاً. وعندما عاد منهكاً ومهزوماً من الصقيع الأوروبي أناخ على كاهله اغترابه الفكري فأضناه.

أرغمته صروف الدهر على الكآبة، وأورثته إحساساً عميقاً بالألم البشري. لم يجد في النضال الفلسطيني المسلح شفاء من عذاباته الوجودية، ولم يعثر في الفكر والكتابة والترجمة على خلاص من قلقه، ولم يهتدِ في ترحاله اليومي على امرأة تهدئ وجيف قلبه وارتعاش حواسه. وفي معمعان هذا الجحيم عجز أصدقاؤه عن إعادة الهدأة لكيانه المضطرب، فانصرف عن القراءة والكتابة، ودفن الأمل بيديه، وانصرف إلى العزلة.

والده أحمد الكبة كان شفيع الطلاب الفقراء الحالمين بالثورة والعدالة. وتلك النيران المقدسة تسللت إلى محمد الكبة الذي حلم بالجمال والسلام والحب. ولما خانته وسائله بعدما غادر معظم أصدقائه إلى ديار العالم الواسعة، أحس بجليد لا ينثني عن لسع جسده المتحفز، فارتحل إلى بلاد الثلج في ألمانيا. وحين عاد إلى بلاد الشمس الدافئة في لبنان، كانت جذوة التمرد والتأمل قد انطفأت في داخله، ولا سيما بعد وفاة والده الذي كان يألف إليه ويتكئ على حضوره لحماية جسده.

ولد محمد الكبة في سنة 1951 في مخيم برج البراجنة لعائلة فلسطينية لجأت من ترشيحا إلى لبنان في سنة 1948. درس المرحلة الثانوية، والتحق بالعمل الفدائي بدلاً من الجامعة، لكنه لم يلبث أن غادر موقعه في احدى المنظمات الفلسطينية بعد حوادث أيلول 1970 في الأردن، وجاء إلى لبنان ليعمل منضد حروف في احدى مطابع الخندق الغميق في بيروت. شغف بكارل ماركس وفريدريك نيتشه، وتأثر بأطروحات الكاتب التونسي العفيف الأخضر عن الثورة والحياة والفن والمتعة. ترجم من اعمال لينين «نصوص حول الموقف من الدين» التي قدم لها العفيف الأخضر بمقدمة جريئة بعنوان «من نقد السماء إلى نقد الأرض» (بيروت: دار الطليعة، 1972)، وكتب شعراً جميلاً ونثراً مميزاً، وأضاع ما كتب بين بيروت وبرلين.

تراكمت خيباته الفكرية والسياسية والغرامية وحفرت أخاديد عميقة في أحاسيسه، فوجد في نيتشه مثاله الفكري، فشرع في ترجمته عن الإنكليزية لأنه رأى في ترجمة فليكس فارس لكتاب «هكذا تكلم زرادشت» نصاً بلا روح. وكي يقترب أكثر من روح نيتشه وعوالمه البلاغية صمم على دراسة الألمانية ليتمكن من ترجمته مباشرة من لغته الأصلية، فغادر بيروت إلى ألمانيا أول مرة في سنة 1977. وفي ألمانيا اشتدت عليه الغربة، وحاصرته الوحدة، وصدمته حداثة تلك البلاد وبرودتها وجمال نسائها، فراح يمشي في شوارعها القارسة جائعاً كسيراً واجف القلب. وأوصلته هذه التجربة الحسية مراراً إلى المرحلة الذئبية في مشاعره، بينما كان يريد اختبار القدرة على إلغاء الوجود الثقيل للبطن والمعدة. وبالتدريج أصيب بحال من الانفصام، وتردت أحواله، حتى صار كأن لا شيء في العالم يشغله، وكف عن الكتابة ثم عن القراءة بعدما أصدر كتاباً بعنوان «الساكت والمتحدث»، ووقع غلافه باسم مستعار هو ناصر أحمد. وكان ترجم أيضاً في سنة 1974 كتاب «التصور المادي للنظرية الماركسية»، وكتاباً بعنوان «حول كومونة باريس» (بيروت: دار ابن خلدون، 1973)، فضلاً عن مقالات كان ينشرها في مجلة «دراسات عربية».

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل