المحتوى الرئيسى

أولادكم ليسوا لكم.. أولادكم أبناء الحرب

10/19 00:49

على مدخل بلدة قدسيا، ينتظر العم ياسين انتهاء عناصر الحاجز العسكري من تفتيش السيارة العمومية التي تقلّه مع بعض الجيران، قبل السماح لهم بالدخول. يطلق الرجل زفرةً طويلة، ويبادر مرافقيه بالقول: «هذا ما فعله الزعران بنا». العم ياسين ليس مقتنعاً بكل ما جرى، ويرفض إلى اليوم الخضوعَ للأمر الواقع.

حديثٌ قصير يدور بيني وبين الرجل السبعيني، يبدأه بامتعاض الأب الرافض لخطأ الأبناء: «زرت بلدانا كثيرة، أوروبا والخليج والمغرب.. بس متل هالبلاد ما في صدقيني، حتى بقسوتها أحلى من كل بلاد الدني، ليش هيك عملوا فيها وفينا؟»، يهزّ برأسه بلا حول ولا قوة.

أبو معتز من أبناء حي المهاجرين في دمشق، متزوج من امرأة مغربية وله منها ولدٌ وبنت، عاد إلى سوريا مع عائلته قبل عامين من بدء الأحداث، بعدما قضى قرابة الخمسة عشر عاماً في بلدان الاغتراب أمضاها في أبحاث الدراسة والعمل. اختار السكن في قدسيا، حيث كانت البلدة ملاذاً للراغبين بالابتعاد عن صخب العاصمة وضجيجها. قرر ولداه السفر لإتمام دراستهما في الخارج بناءً على رغبة والديهما بالابتعاد عن مجهول الحرب.

يبدو السؤال عن عدم السفر مع الأولاد بديهياً، إلا أن جواب الرجل كان حازماً، ويقطع الطريق على أي استفسار يفرضه منطق القبول بالابتعاد عن أبناء القلب تحت أي ظرف: «لوين بدي روح ؟ بلدي هي هون. خلقت وهون ربيت، وهون تعلمت، وهون بدي ضل، ما بتركها لموت».

في الطريق الواصلة بين باب مصلى وأبو رمانة، يطلب سائق سيارة الأجرة 400 ليرة سورية. المسافة طويلة والمبلغ قليل. «يمكنك طلب المزيد»، أردّ على طلب الرجل، فيجيبني بابتسامة كساها الخجل: «والله يا عمو هالشغلة مو شغلتي، وما عم أعرف شو لازم أطلب».

لم تكن الحرب رحيمةً بأعزاء القوم الذين ذُلّوا كما يقول المثل، فالعم أبو أيهم (اسم مستعار) كان من المنعمين وصاحب ورشات ومخارط حديد في عربين في الغوطة الشرقية، لكن مع اشتعال المعارك في المنطقة، استولى المسلحون على أملاكه واحترقت المزارع بما فيها، وهرب الرجل مع زوجته وولديه إلى أحد أحياء دمشق الآمنة، متنقلين بين منازل الإيجارات ما يقارب العام، إلى أن بدأت موجة الهجرة والسفر، فاختار الأولاد الرحيل إلى تركيا أولاً ومنها إلى أوروبا، ليجد الأب نفسه وحيداً مع زوجته التي لم تحتمل فكرة ابتعاد أبنائها عنها، فاختارت الطلاق وترك زوجها وحيداً بعدما فشلت في إقناعه بفكرة الرحيل واللحاق بأبنائهم.

الخيارات ليست مفتوحة أمام الرجل الخمسيني، فالمبلغ الذي استطاع الخروج به شارف على الانتهاء وأجور السكن في ارتفاع مستمر، بقي معه حوالي المليون ليرة، فترك المنزل واشترى سيارة أجرة، وصار يعتاش من عمله على السيارة التي تحولت إلى بيت متنقل.

يمسح أبو أيهم بضع قطرات من العرق المتصبب من جبينه ويقول: «يوم الي بشتغل باكل، ويوم اللي ما بشتغل ما بلاقي بجيبتي حق سندويشة، بس المهم آخر الليل بنام وضميري مرتاح». إنه منطق الرجال الواثقين بأن السرقة والإجرام قد يجلبان لك المال، لكنهما حكماً سيسلبان منك راحة البال.

لا حاجة لأكبر من صندوق سيارة، فقد نسي أبو أيهم تاريخ آخر مرة اشترى فيها ثياباً جديدة، وورق لفّ السندويش يمكن رميه أو حتى حرقه كما احترقت كل الذكريات. مثقلاً بالشوق لأولاده الغائبين، يختار الرجل لنفسه ركناً بالقرب من إحدى محطات الوقود في منطقة ابن عساكر في دمشق، وينام في داخل المركبة ليستيقظ فجر اليوم التالي ويملأ خزان سيارته بالوقود منطلقاً إلى العمل.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل