المحتوى الرئيسى

نضال إبراهيم تكتب: الدين.. الرياضيات.. والموسيقى

10/18 10:17

(قصة مختلقة لحياة الإنسان على الأرض)

الإيقاع النسق التناغم التكرار: كلمات مفتاحية وأساسية في فهم الإنسان الأول للطبيعة والكون، وهي الميثاق بين الإنسان والطبيعة فبمعرفته لهذا القانون ولهذا النسق فقد قطع شوطا في طريق البقاء، فإثر كل غروب للشمس يقتضي العهد أن تشرق من جديد، فما على الإنسان إذًا سوى حماية نفسه من دواب الليل وهوامه في انتظار شروقها، مواسم الأمطار والجفاف مواسم اللقاح وسفاد الطيور وهجرتها وعودتها.. كل ظاهرة في الطبيعة إنما هي علامة تدل على ظاهرة أخرى. ثم يبدأ الإنسان في تقليد الطبيعة والتماهي معها فيرتدي جلود الحيوانات ويطلق صيحات الحرب كما زئيرها ثم يستعين بأجزاء جسدها في صنع أدوات تعينه على تجاوز إمكاناته الجسدية، فمن قرونها يصنع أبواقه الأولى ومن شعرها وأمعائها يهتدي للوتر، فالطبيعة هي المعلم الأول للإنسان.

لم ينفك ارتباط الإنسان بالطبيعة بعد، فكل يوم يضيف خبرة تتراكم في الذاكرة الجمعية للإنسان، ويلاحظ النمط السائد في الكون ورتابته ملاحظة أكثر دقة وأكثر تعقيدا من حساب اليوم والفصول والسنين، الآن لابد من لغة يعبر بها عن هذه الرتابة وهذا التكرار، هنا يأتي دور الرياضيات، فإن كان للكون موسيقاه الخاصة فإن الرياضيات هي النوتة التي كتبت بها هذه الموسيقى، فكل الأشياء أرقام -كما يقول فيثاغورث- وكلما زاد تعقيد الأولى في ذهن الإنسان، زاد بالتبعية تعقيد الثانية.

والآن ما علاقة الدين بكل هذا؟

إن الديانات الأولى كانت تتمحور حول الطبيعة كموضوع للعبادة أو كجزء من طقوسها أو مواقيتها، وتتفق الديانات الإبراهيمية في هذه الأخيرة، ولكن لكي نرى العلاقة بوضوح، فلننظر إلى فيثاغورس معلم ثيانو وزوجها وتلميذ انكسماندر، وهو أيضا مؤسس الحركة الفيثاغورية، وهي حركة صوفية في الأساس إلا ان اهتماماتها مثيرة للاهتمام، فما الذي يفترض بحركة دينية أن تهتم به؟ الدين؟ حسنا لقد كان لفيثاغورس واتباعه آراء في ما هية الروح وغيرها من القضايا الدينية والفلسفية، وهو أيضا من اسمى الفلسفة بالفلسفة حين قال إنه ليس حكيما وإنما محبا للحكمة، ولكن اهتمامه الأساسي كان بالرياضيات والموسيقى في المقام الأول* والفيثاغورثيون يرون أن الكون إنما هو نتاج التمازج بين العدد والنغم.

مازالت العلاقة غائمة وغير واضحة؟ لماذا لا نذهب للهند إذن حيث تعدد الديانات والثقافات والموسيقى، ولا ابالغ حين اقول حيث ولدت الرياضيات.. الدين في الهند هو أصل كل شيء، فكل شيء يبدأ بالمعتقد وينتهي إليه، فالموسيقى بالنسبة للهنود هي تمرين تأملي ذهني يقوم به الجميع، استخدام الطبول مثلا غرضه إرضاء الآلهة، والرقص والغناء هما أقصر الطرق لإرضاء الآلهة **

الآن ألا يبدو هذا مألوفا؟ أعني كما في الزار إذا استبدلنا الآلهة بالجن!

أما عن الرياضيات فإن أهم اكتشاف في تاريخها كان اكتشافا هنديا، وهو إذن بالضرورة ديني، ففي معبد صغير في قلعة جواليور في وسط الهند نقش هذا الاكتشاف وهو (الصفر)، ولكن كيف يكون الصفر مفهوما دينيا؟

يفسر الرياضي ماركوس دي ساوتوي أن استعمال الهنود للصفر يكمن في أن مفاهيم كالعدم والخلود هي مفاهيم من صميم العقيدة الهندية القديمة، فالكون في هذه العقائد وجد من العدم، والعدم هو ما سيؤول اليه***

اتضحت العلاقة الآن؟ حسنا لِمّ لا نزيد العلاقة تعيقدا ونضيف متغيرا آخر؟ وليكن اللغة مثلا، واللغة هي الوعاء الذي يحمل أفكارنا، وبصراحة لكي اكون قدر التحدي، فيفترض بي أن أكون على دراية بقدر ضئيل على الأقل بلغات العالم المختلفة، ولكن هذا للأسف لم يحدث، أنا فقط افترض أن اللغة مهما كانت درجة تعقيدها إنما لها ذات المصدر وهو الطبيعة بالإضافة إلى تفاعل الإنسان مع الطبيعة، وقدرته على الإضافة والحذف، وهذا التفاعل هو الذي ينشيء آلاف الاحتمالات واللغات، وتبقى هناك عوامل مشتركة بينها، والعامل الذي اعول عليه هنا هو السجع، ففي كل اللغات بدائية كانت أم حديثة، متحدثة بواسطة تعداد سكاني كبير أو ببضع نسمات، تشترك اللغات في السجع أو الجمل ذات النهايات المتشابهة، وفي رحلة اللغة يرافقنا الخيام والخليل بن أحمد الفراهيدي، فالفراهيدي -وهو واضع بحور الشعر- في مشهد يمكن أن يذكرنا بمشهد اكتشاف فياغورث للدوزنة الموسيقية **** عندما مر بسوق الصفارين (الحدادين)، فكان لصوت دقدقة مطارقهم على نغم مميز ومنهُ طرأت بباله فكرة العروض التي يعتمد عليها الشعر العربي. فكان يذهب إلى بيته ويتدلى إلى البئر ويبدأ بإصدار الأصوات بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة.

أما الخيام وهو المعروف لدينا كشاعر الرباعيات، فهو رياضي في المقام الأول، إذ أنه أوّل من اخترع طريقة حساب المثلثات والمعادلات الجبرية من الدرجة الثالثة، وهو أول من استخدم الكلمة العربية “شيء” التي رسمت في الكتب العلمية البرتغالية، وسرعان ما استبدلت بالحرف اكس الذي أصبح يدل على الرقم المجهول (Xay)، وقد وضع الخيام تقويما سنويًا بالغ الدقة، كما تولى الرصد في مرصد أصفهان.

فالشعر إذًا والموسيقى والرسم والرياضيات والدين وغيرها إنما هي وسائل للتعبير عن ماهية هذا الكون، أو على الأقل فهمنا ومعرفتنا لهذه الماهية، ويمكنني أن اتمادى أكثر لأدعي أن كل (شيء) في الكون إنما هو عدد.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل