المحتوى الرئيسى

«البالة».. كسوة الفقراء

10/17 09:09

وجدت ملابس الرصيف سوقًا مفتوحًا فى معظم ميادين وشوارع العاصمة وأصبحت مصدرًا لجذب أنظار أعداد متزايدة من المواطنين ذوى الدخل المحدود والمرتفع على حد سواء، نظرًا لرخص ثمنها، وجودة معظم منتجاتها، إذ تستحوذ تجارة الملابس المستعمل، أو ما يعرف بـ«البالة» على 15٪ من السوق بقيمة 8 مليارات جنيه سنويًا ويحصد التجار أرباحًا خرافية.

وتجارة «البالة» المستعملة هى تجار مشروعة تسير جنبًا إلى جنب مع الملابس الرديئة لكنها لا تخضع لآليات الدولة فـ60٪ منها يدخل البلاد مهربًا والآخر يتم تصنيعه وهى الملابس الرديئة تحت «بئر السلم» وأثرت التجارة بالسلب على الصناعة الوطنية، إذ تسببت فى إغلاق عدد كبير من مصانع الملابس الجاهزة التي زادت أعباؤها وديونها تحت ضغط المنتجات الأجنبية فى ظل غياب الرقابة والقانون.

ومع هذا تمتعت تجارة الملابس الأوروبية المستعملة بسمعة جيدة باعتبارها بمثابة التجارة الأولى والأوسع انتشارا فى أسواق الملابس المستعملة على مستوى محافظات مصر نظرا لانخفاض أسعارها وجودة خاماتها بخلاف البضائع الصينية والتركية بأشكالها المختلفة.

وعادة ما تباع هذه المنتجات على أرصفة الشوارع، وتغرق الأسواق الشعبية مثل أسواق العتبة والموسكى ووكالة البلح، وتتنوع الزبائن ما بين الموظفين محدودى الدخل والمعدمين من الفقراء الذين يحلمون بملابس تسترهم بمبالغ قليلة وأيضا الطبقة الوسطى، حتى أن بعض الميسورين كان لهم نصيب فى بالة ملابس البسطاء، ولهذا يترددون على مثل هذه الأسواق بحثا عن ماركة عالمية ورغبة فى توفير الفارق الكبير فى السعر.

ولكن ما هو سر رواج الملابس المستعملة وملابس «بئر السلم» رغم تحذيرات الأطباء بخطورتها على الصحة العامة وكيف يمكن مواجهة تلك الظاهرة، التى تضر بالاقتصاد القومى.

«الوفد» قامت بجولة ترصد أماكن تواجد بائعى الملابس مجهولة المصدر فى الأسواق الشعبية والراقية، البداية كانت من منطقتى العتبة  والموسكى، إذ تنتشر  ملابس الرصيف بكثافة شديدة، ويحتشد الباعة بـ«الفرش» على الأرصفة وحتى نهر الشارع وعلى السيارات، وبالنظر سريعا إلى قائمة الأسعار سنجد أن «البلوزة» يتراوح سعرها بين 15 جنيها و55 جنيها والفستان بين 30 و95 جنيها والبنطلون الحريمى بين 50 و80 جنيها فى حين يباع القميص الرجالى بسعر 35 جنيها وزوج الجوارب بسعر 2٫5 جنيه.

أما منطقة وكالة البلح فتتسع لتجارة الملابس المستعملة والمستوردة من الدول الأوروبية والصين وتركيا سواء الملابس الرجالى أو الحريمى أو الأطفال والملابس الشبابية بجميع الأعمار والمقاسات، ويتم شحنها من الموانئ البحرية عبر حاويات «كونتينرات» مغلقة، بعد أن يكون التاجر قد أجرى صفقة شراء تجارية بسعر قليل يمكنه من ربح مال كاف بعد بيعها بالقطع المفردة.

وعندما تصل إلى يد التاجر، يقوم عمال بتفريغها، إذ يعمدون إلى فرزها وفصل كل قطعة بحسب جودة كل واحدة فتباع بعد ذلك بالسعر الذى يريده التاجر وفقا لجودة القطعة فأسعار ملابس الأطفال والشباب من الجنسين تبدأ من 5 جنيهات للقطعة وتنتهى عند 90 جنيها ليصل سعر الفستان إلى 30 جنيها أما البلوزة فيتراوح سعرها بين 15 و55 جنيها والتونيك 45 جنيها والبنطلون الجينز الحريمى بين 50 و80 جنيها والبنطلون الجبردين بسعر 50 جنيها فى حين يتراوح سعر القميص الرجالى بين 25 و 35 جنيها أما البطاطين فبين 30 و75 جنيها، وطبعا القطع الأفضل جودة تسمى «الكريمة» ويتراوح سعرها للتجار بين 70 و200 جنيه للكيلو جرام الواحد وتزن البالة 50 كيلو جراما.

وهناك النوع رخيص الثمن ويسمى «هردة البالة» ويباع الكيلو جرام منه للتجار بسعر 50 جنيها.

أما عن بائعي وكالة البلح فيقول السيد مطاوع صاحب أحد محال الملابس الجاهزة: هذه المهنة توارثناها عن آبائنا وأجدادنا، ولا نعرف بديلا عنها، فنحن نعمل بالقطعة ووكالة البلح تعتبر تنفسا لكافة طبقات المجتمع، ليسوا فقط الفقراء، وإن كانوا هم الفئة العظمى بل يأتى الأغنياء أيضا، فجميعهم يقصدون الماركات  العالمية من خلال البالات المستعملة القادمة من أوروبا وأمريكا والصين ودول الخليج خصوصا السعودية وتباع بأسعار زهيدة تبدأ من 5 جنيهات إلى 150 جنيها وهى تناسب جميع الأعمار والأجناس. ورغم انخفاض الأسعار إلا أن الإقبال متوسط على الشراء.

وأضاف: كل بالة تختلف حسب الجودة فهناك بالات «كريمة وفرز أول وفرز ثانى وهردة» وغالبا ما يتم شراؤها بالكيلو جرام من تجار بورسعيد سواء كانت ملابس أطفال أو قمصان رجالى أو بنطلونات جينز للجنسيين أو فساتين للفتيات، وهذه الملابس المستعملة التى تدخل البلاد مهربة يجرى فرزها ثم تجميعها وإعادة غسلها وتغليفها وبعد ذلك عرضها للبيع فى الأسواق وزبائننا يأتون من شتى محافظات الجمهورية، لأن منتجاتنا تظل الأرخص سعرا عن مثيلاتها فى المحلات.

وقال محمد عبدالمنعم، بائع ملابس وشهرته «أبومحمد»: منتجاتنا هى الأجود والأرخص مقارنة بأسواق الملابس الجاهزة فى المناطق الراقية لكن الحكومة تضر بأغلب باعة الملابس المستعملة وتكبدهم خسائر مستمرة على مرأى ومسمع من الجهات المعنية، لذا نطالب بإدخال هذه المنتجات بالطرق الرسمية عبر الجمارك، على أن توفرها الدولة لبائعى الملابس الجاهزة بأسعار معقولة، وتتركنا فى أسواقنا بشكل دائم دون مضايقات أو مطاردات أمنية حتى نستطيع من خلالها بيع بضائعنا وتوفير لقمة عيش تكفل لنا ولأبنائنا حياة كريمة.

وتحدث أحد المواطنين رافضا نشر اسمه، وقال: منين هناكل، فأنا أخرج إلى الشارع من أجل لقمة عيشى أنا وأولادى الستة، وتساءل قائلا: كم سأربح من تجارتى هنا، والحكومة بتحاربنا فى مصدر أرزاقنا وفى الأساس مفيش زبائن.

ولا يختلف الأمر كثيرا فى الأسواق الشعبية، عنه فى الأحياء الراقية بشارع 26 يوليو بمنطقة وسط البلد وأيضا شارع قصر النيل، الذى يكتظ أيضا ببائعى ملابس الأطفال والملابس الحريمى والإيشاربات التى يرتفع سعر الواحد منها إلى 15 جنيها.

ولكن.. لماذا يشترى المستهلكون هذه الـ«بالات»؟

تقول فاطمة مرزوق، ربة منزل، إن رخص أسعار البالات كان سبباً أساسياً فى إقبالهم على الشراء، فهى تتقاضى معاشاً لا يتعدى 700 جنيه وزوجها متوفى، ولا تقدر على الشراء من المحال التى تعرض الملابس مرتفعة السعر.

عطا محمود «موظف» ومقيم فى منطقة بولاق أبوالعلا، يقول: أسعار الملابس نار ولا يمكننى أن أدفع 250 جنيهاً ثمناً لبنطلون جينز، حيث إن راتبى لا يتجاوز الـ1500 جنيه، وأعول 5 أبناء منهم 3 أطفال فى مراحل تعليمية مختلفة، وزوجتى تعانى حساسية فى الصدر والسكر، ولذلك لجأت إلى سوق وكالة البلح لشراء 3 فساتين، وبنطلونين حريمى بإجمالى سعر 190 جنيهاً، لكى أفرح أولادى الصغار، فهذه الأسواق تعد ملجأ للفقراء ومحدودى ومتوسطى الدخل، وأيضاً الأغنياء.

محمد أنور «35 عاماً»، يعول طفلتين ومقيم فى منطقة البساتين، قال: نعانى طمع تجار الملابس الحريمى والرجالى والأطفال كعادة كل عام، فأسعار الملابس الجاهزة بوسط البلد مرتفعة الثمن، إذ يصل سعر البنطلون الحريمى إلى 200 جنيه والبلوزة الحريمى 95 جنيهاً والتونيك 150 جنيهاً، وهذه الأسعار المرتفعة لم نعد قادرين عليها، فأنا عامل بسيط وراتبى لا يتعدى الـ800 جنيه، ودائماً نقول يارب ارزقنا بالحلال.

وقال إكرامى مرزوق، محاسب بمنطقة السيدة زينب، إن السيطرة على انفلات الأسعار، تتم من خلال ضبط وتنظيم سوق الملابس فى مصر، والمشكلات كثيرة أبرزها المخاطر الصحية التى تسببها هذه الملابس المستوردة، بعدما يتم السماح بدخول المنتجات الصينية والتركية للأسواق المصرية وغزوها والبيع بأسعار قليلة لا يمكن منافستها، فى ظل غياب الأجهزة الرقابية، وارتفاع الأسعار المبالغ فيه بمحال الملابس الجاهزة، وعدم قدرة أغلب المواطنين على دفع مبالغ كبيرة فى شراء الملابس، بسبب ظروفهم الصعبة.

محمود على، عامل فى إحدى الشركات الخاصة، يطالب الدولة بتوفير مثل هذه المنتجات بأسعار معقولة ومصنعة تحت إشرافها، حماية لصحتنا وصحة أولادنا، بدلاً من أن تتركنا لهذه المنتجات الرديئة التى تضرنا، ولكنا مضطرون لشرائها لرخص أسعارها.. مضيفاً: الحارس هو الله.

عصام عطية، صاحب محل أزياء حريمى بشارع حسن رمضان، بمنطقة الدقى، يقول: الحكومة تفتقد للرؤية الواضحة فى إدارة ملف الصناعة الوطنية، فكان من الأولى أن تدعم الإنتاج المحلى، وتحافظ على استمراريته وتطوره بالاستفادة من موارد الدولة الهائلة بالتشجيع على التصنيع والتطور لهذه الصناعة الوطنية.

ويرى يحيى زنانيرى، نائب رئيس قسم المنسوجات بالاتحاد العام للغرفة التجارية، أن تجارة البالة هى تجارة مشروعة.. ولا تسبب أى أمراض.. ولم يحظر دخولها يوماً ما، مقدراً حجم تجارة الملابس «البالة» حالياً بنحو 15٪ من حجم تجارة الملابس فى مصر، وأضاف أن عائدات الملابس المستعملة فى «الوكالة» و«الموسكى» وصلت لمبلغ 8 مليارات جنيه، مشيراً إلى أن سر نجاح أسواق الملابس الأوروبية المستوردة «البالة» بكافة المحافظات ليس بسبب السعر فقط، ولكن الملابس المعروضة عالية الجودة لدرجة إن المنتجات الصينية لن تصل لهذه الجودة، لأن المنتجات الأوروبية لها مقاييس جودة صارمة، لهذا تقبل كافة طبقات المجتمع المختلفة على الملابس الأوروبية المستعملة «البالة» بشكل كبير، نظراً لرخص ثمنها وتخضع الملابس الأوروبية المستعملة للتطهير بطريقة آمنة ومضمونة من قبل الشركات المتخصصة وأجهزتها المعنية، وبالتالى على الدولة تخصيص أماكن للباعة، على أن تكون معروفة من قبل المواطنين، لكى يستطيعون من خلالها توفير لقمة عيش تكفل لهم وأولادهم حياة كريمة، بعيداً عن المطاردات الأمنية.

وأوضح زنانيرى أن 60٪ من الملابس المستعملة تدخل البلاد بطرق غير مشروعة لصالح كبار المستوردين.

وأضاف: هناك فرق كبير بين المنتجات التى تصنع تحت بئر السلم التى تضاف إليها أصباغ رديئة، قد تؤدى إلى الإصابة بأمراض خطيرة مثل السرطانات، وبين ما يستورده التجار المصريون من البلاد الأجنبية، التى تشتهر بالخامات الجيدة والتصميمات الأنيقة والماركات العالمية، فضلاً عن رخص أسعارها، وهو السبب الرئيسى لرواج هذه البضائع المتميزة، وإقبال المواطنين عليها.

وطالب زنانيرى مؤسسات الدولة بتقنين أوضاع 7 ملايين بائع ملابس، حتى يتسنى للدولة محاسبتهم بعد ذلك، مؤكداً أهمية توافر شروط هامة لاستيراد البضائع من الخارج وهى وجود بطاقة استيرادية وفاتورة معتمدة من المنشأ وشهادة تفيد بأن المنتجات القادمة من الخارج مطابقة للمواصفات القياسية، ولا تسبب أى أمراض، وأيضاً يتوافر لدى كل تاجر سجل تجارى وبطاقة ضريبية حتى أن جواز سفر تاجر البالة يدل على الجهة التى يتعامل معها.

الدكتور إيهاب الدسوقى، الخبير الاقتصادى المعروف، أعلن عن تجارب مثالية لدول كثيرة خاصة فى شرق آسيا مثل اليابان والصين وهونج كونج وتايوان، حيث قامت بحل هذه المعادلة، عن طريق الإعلان عن تسهيلات للقطاع غير الرسمى وهى تتمثل فى أن تكون المدة السابقة على التسجيل فى الاقتصاد الرسمى معفاة بالكامل من أى رسوم أى ضرائب أو مسئولية مدنية أو جنائية أو غرامات أو خلافه، وتدريب معظم العمالة وتأهيلها للعمل ذي المواصفات والجودة، والإعفاء 3 سنوات مقبلة من كافة الضرائب والرسوم، وسداد التأمينات من بداية التسجيل فى المنظومة العامة، وعمل جهاز تابع للحكومة لشراء هذه المنتجات سواء للتوزيع داخل مصر أو للاستيراد أو للتصدير للخارج، ويتم مدهم بالمواد الخام اللازم لهذه الصناعات وهذه السلع بأسعار مخفضة، والتعامل مع هذه الصناعات بصفتها صناعات صغيرة، وبالتالى تخضع لشرائح ضريبية مخفضة، وتحديد مدة زمنية لا تزيد على 60 يوماً لمن يريد أن يتمتع بالحوافز ودخل فى الاقتصاد الرسمى وبعد ذلك تكون هناك عقوبات مالية مغلظة، مع تحديد أسواق وأماكن لوجود الباعة الجائلين فى لمدن، ويكون هناك مظهر حضارى لهذه الأسواق، وبذلك يتم دمج الاقتصاد غير الرسمى أو العشوائى أو الأسود فى منظومة الاقتصاد الرسمى.

وأضاف أن أشهر معالم الاقتصاد السرى هم الباعة الجائلون، فى الميادين والشوارع الرئيسية بالمحافظات الكبرى، ومصانع تقليد السلع بصورة رديئة، ما يؤثر على اسم المنتج الأصلى، بالإضافة للأخطار التى تلحق بالمواطنين، وأبرز هذه المنتجات هى الملابس الرديئة والمستعملة، وحال ضم هذا الاقتصاد غير الرسمى لمنظومة العمل الحكومية، سيعمل على زيادة حصيلة الضرائب بما لا يقل عن 150 مليار جنيه سنوياً، وزيادة حصيلة التأمينات الاجتماعية، والتأمين الصحى، والفرز السليم لقاعدة البيانات لمن يستحق الدعم من عدمه، وعدالة التوزيع فى السلع والخدمات التى تتحملها الدولة، ويوفر لأصحاب الاقتصاد السرى والعاملين فيه فرص التعامل مع البنوك بكافة أشكال التعامل من أخذ فيزا كارت أو قروض أو تسهيلات ائتمانية، وتسهيل الحصول للعمالة فى هذا القطاع على معاشات من التأمينات الاجتماعية، مع أهمية القيام بتدريب هؤلاء خاصة أصحاب مصانع تقليد الصناعات والماركات التجارية الكبيرة على القيام بالصناعات ذات المواصفات والجودة، ما يزيد من الإنتاج المحلى، ويتم خفض الاستيراد، وبالتالى يتم التخفيض على طلب العملة.

د. مأمون شلبى أخصائى الأمراض الجلدية:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل