المحتوى الرئيسى

كيف يروي الجسد تاريخنا العربي؟

10/15 09:33

يثير مفهوم الجسد في مجمل الحضارات الإنسانية، الكثير من الأسئلة، التي يمكن أن تكون درباً لقراءة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي لتلك الحضارات. فالجسد، في مجمل تلك المسارات، يتجاوز مفهوم البدن، اللحم والدم، ليصل إلى الهوية العرقية والتكوين الاجتماعي والتصنيف الجندري، كما المعتقدات والتصورات اللاهوتية.

يتجلى هذا في تتبع سيرة الجسد في الحضارة اليونانية، أو الرومانية، أو الفرعونية القديمة، وصولاً إلى الحضارة العربية القديمة والمعاصرة. فلكل حضارة قصتها مع الجسد، منها ما كان الجسد فيها قرباناً للآلهة مثل الفرعونية، ومنها ما كان مثار جدلٍ حول حقيقة وجودنا مثل اليونانية، ومنها ما ظل مفهوماً إشكالياً، لا يتوقف النزاع حوله، كما هو الحال في الثقافة العربية والإسلامية.

لذلك يشكّل البحث في تحولات مفهوم الجسد وأشكال حضوره في الثقافة العربية، واحداً من المفاتيح التي يمكن من خلالها الوصول إلى قعر الذهنية العربية تاريخياً، وأهم المؤثرات الأسطورية والخيالية التي أنتجت علاقتها مع الجسد، وصولاً إلى تاريخ الطبقات الاجتماعية، ومفهوم السلطة داخل المنظومة الإسلامية والعربية، إضافة إلى قدرة الجسد على الكشف عن مفاهيم مخاتلة في الذهنية الإسلامية، مثل القتل، والأمومة، والزواج، وغيرها.

لكن ظل حضور الجسد خافتاً في قراءتنا لتراثنا العربي، فاستمرت الدراسات بالاقتراب من الجسد في بحثها لتاريخ الجنسانية، أو حفرياتها المتكررة عن جذور العنف، في الوقت الذي غاب فيه الجسد عن الدراسات السوسيوثقافية، أو التنظيرات الأيدلوجية، أو حتى القراءات الاجتماعية.

تنكشف قدرة الجسد على فتح كل تلك المنافذ، الفكرية والتاريخية في تراثنا العربي، عند تحقيق المقاربة المنهجية بين وقائع لها حضورها في تاريخنا العربي، وما يقابلها من وقائع في ثقافات وحضارات قديمة ومعاصرة.

يفتح مفهوم الجسد في الثقافة العربية الإسلامية الباب كاملاً على تاريخ التكوين الاجتماعي في دولة الإسلام الأولى، وما سبقها من مراحل الجاهلية المتأخرة. فيضعنا أمام تصنيف واضح لشكل الطبقات الاجتماعية في تلك الفترة، وهرم السلطة القائم فيها. وتكفي العودة إلى واحدة من الحكايات الشهيرة حول تاريخ جسد المرأة في الإسلام، والتي يرويها مؤرخون في قصة عمر بن الخطاب مع الأمة، "العبدة"، التي ضربها في السوق ونهاها عن ارتداء الحجاب.

يروي هذه الحكاية بكل أشكالها ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبيرة"، فيذكر في الجزء السابع ما نصه: "كان عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يطوف في المدينة، فإذا رأى أمة محجبة ضربها بدرته الشهيرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها ويقول: فيم الإماء يتشبهن بالحرائر". وقال أنس: "مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يالكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع". وروى أبو حفص أن "عمر كان لا يدع أمة تقنع في خلافته".

تنكشف صورة الجسد بوصفه هوية، يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق التصنيف الطبقي والاجتماعي في مجتمع الإسلام الأول. فالمعاين للحكاية، يجد أن عمر عرف الأمة من تكوينها الجسدي وشكل ملامحها، وبالتالي حكم عليها في التصنيف الذي يجب أن تكون فيه. فحجب جسد المرأة الأمة في الإسلام يختلف عن جسد الحرة، لأن عورتها مماثلة لعورة الرجل، من السرة إلى الركبة.

تثير هذه الحادثة وغيرها من الحكايات المماثلة، كيف تحول الجسد، اللحم والدم، إلى هوية يمكنها أن تحقق التصنيف الاجتماعي، أو حتى أنماط الأعمال التي يقوم فيها الفرد في مجتمع، وصولاً إلى شكل مسكنه، وما يليق به للزواج، وغيرها من أشكال الحياة اليومية والاجتماعية الراسخة. فليس لعبد أن يتزوج حرة، وليس لأمة أن تلبس مثل الحرائر، وليس للحرة أن تخرج ثدييها وتسير في الأسواق مثل الأمات، وغيرها الكثير من المعايير الضابطة.

شارك غردمن ارتداء الحجاب في زمن عمر بن الخطاب، وصولاً إلى مهنة الرضاعة عند العرب… بحث في أشكال حضور الجسد في الثقافة العربية

تظهر الحكاية نمط السلطة القائم، في شخصية عمر، وآليات تنفيذها، الضرب بالدرة، وما يقابلها من فكرة الخضوع والخنوع الماثلة في شخصية الأمة، إضافة إلى فكرة العزل الصارمة، التي حرص عليها عمر في تفريقه بين الحرة والامة، مستنداً بذلك إلى مرجعيات القبيلة وعقلية العزو، وما أبقت عليه التعاليم الإسلامية.

وقد يبدو حضور الجسد بتلك الصيغة مألوفاً، فهو حتى اليوم قائم، ومحسوس في تحقيق التصنيفات الطبقية والاجتماعية. فالجسد ينتج اليوم قائمة من الهويات داخل المجتمع المعاصر. مثل أن مرضى متلازمة داون لهم هويتهم الخاصة، كذلك الرياضيين، وعارضي الأزياء، والمتشردين، وغيرهم.

لا يثير الجسد بوصفه هوية سوى تساؤلات جديدة عن التحولات التي يمكن أن يحضر فيها. فما يمكن قراءته في مفهوم الانتحارية والفدائية والاستشهاد، يضع الجسد في صورة جديدة تتشابه في حضورها ودورها مع أداة القتل. ويكفي الوقوف على شواهد تاريخية من التراث العربي للوصول إلى سيرة عميقة لمفهوم الانتحارية، وما يتقاطع ويشترك معه من مفاهيم ذات تصنيفات مذهبية وفكرية، كالشهادة والفداء وغيرهما.

لا يتوقف تاريخنا العربي الإسلامي عن سرد حكاية أول فدائي في الإسلام، وهو علي بن أبي طالب، فتروي قصة خروج النبي من بيته، بعد أن أجمعت قبائل مكة على قتله، أن علياً افتدى نفسه مكان الرسول لينام في فراشه ويرتدي بردته.

يعتبر المؤرخون هذه الحادثة، أول حادثة فداء في الإسلام. فعلي كان يضع نفسه تحت سيوف القتلة لينجو الرسول، ما يظهر من جديد مع علي بن أبي طالب في معركة الخندق، فكان أول من قفز من المشركين الفارس عمر بن ود العامري، وطلب أن يخرج من المسلمين من يقاتله، فخرج عليّ رغم أنه كان يعرف أنه يواجه فارساً صلداً يفوقه قامة، وبنية.

تتجلى صورة الجسد بوصفه فداء للقتل بصورة أوضح، من خلال تاريخ حركة "الحشاشين"، وهي طائفة من الشيعة الإسماعيلية، نشطت في بلاد فارس بين القرنين العاشر والثامن عشر، أسسها حسن الصباح، وكانت تقاتل في آن واحد السلطة الفارسية والصليبيين. كان أعضاؤها يستخدمون خنجراً مسموماً يسبب الموت ليس للضحية وحدها، إنما لهم كذلك، فكانوا يعتبرون أن البقاء على قيد الحياة عار، لا سيما إن لم ينجح الاعتداء.

تعيد كل هذه الشواهد الأسئلة حول تحولات مفهوم الانتحارية، وصورة الجسد كأداة فداء، وفي الوقت نفسه سلاح، إذ اختلفت مفاهيم هذه الممارسة، بتغير المذاهب والمعتقدات. يوضح ميشيلا مارزانو في كتابه "معجم الجسد": "إن مفهوم الشهادة موجود في الإسلام لكنه موجود أيضاً في المسيحية. وفي الحالتين، من يموت للشهادة على دينه هو شهيد، إلا أنه بالنسبة للمسيحيين، لا تسوغ التضحية بالحياة إلا للدفاع عن الدين، فيفضل الموت على إنكار الدين. وفي الإسلام، الشهيد أيضاً هو من يقرر الموت بغية تدمير من يعيق تبشيرهم بالدين. هناك انتقال من الشهادة "الدفاعية" إلى الشهادة "الهجومية"، ومع ذلك، هناك فرق بين الشهادة والانتحار يطالب به الإسلام".

وكثيرة هي الروايات المماثلة، التي ترد في مجمل حضارات وثقافات العالم. فمفهوم "كاميكاز"، الذي يعني الريح الإلهية، أطلق على الجنود اليابانيين، الذين كانوا ينفذون عمليات انتحارية ضد الجيش الأمريكي. فيعود أصل التسمية إلى الإعصار الذي ضرب سفن المغول خلال محاولاتهم السيطرة على اليابان عام 1281.

يضعنا تاريخ الرضاعة في الجاهلية، وقصة مرضعة النبي محمد، أمام منفذ جديد. إذ تكشف الحكاية عن مهنة جديدة لجسد المرأة غير "البغاء"، هي مهنة "الإرضاع". كانت نساء القبائل تتوافد إلى مكة لتأخذ المواليد الجدد وترضعهم وترعاهم، مقابل الرعاية والأجر المادي من أهل الرضيع.

وتسرد سيرة بن هشام قصة رضاعة النبي محمد بتفاصيلها، واضعة الجسد أمام تساؤلات جديدة، لها علاقة بمفهوم الرضاعة وما قدمته نظريات التحليل النفسي التقليدية والمعاصرة، إلى جانب العلاقة بين الثدي والجسد الآخر، الرضيع، وأثر ذلك على تكوينه الشعوري والغريزي. فيرد ما نصه على لسان حليمة السعدية: "قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْبَاهُ، إذَا قِيلَ لَهَا إنَّهُ يَتِيمٌ، وَذَلِكَ أَنَّا إنَّمَا كُنَّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فَكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ! وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمُّهُ وَجَدُّهُ! فَكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْتُ لِصَاحِبِي: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا، وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، قَالَ: لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أَنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ. قَالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي أَقَبْلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَامَا".

تبدو بحوث التحليل النفسي الحديثة التي توقفت عند الطفل، والرضاعة، والثدي، مفيدة لتحليل مهنة الإرضاع عند العرب تاريخياً. فمنحت الباحثة النمساوية ميلاني كلين الثدي مكانة مهمة في سيرة الطفل، لكن جعلتها محدودة. وظهر الثدي في نتاج فرويد كعامل إدراك وتعلم الحقيقة بواسطة الخسارة، "سحب الثدي" (الفطام)، ومن وجهة نظر أخرى ظهر الثدي عاملاً رئيسياً في تكوين العلاقة الوجدانية مع المرضعة بسبب قدرتها على إشباع الجوع والمحبة معاً، لتصبح الرضاعة في ما بعد نموذجاً للحب الراشد. هو يعيده إلى فكرة أن الحب تركيز نفسي جنيني شديد، فهذا ما يقوله عدد من الباحثين، إذ يعتبرون أن النوم الذي يغرق فيه الرضيع الشبعان هو نموذج النوم بعد المضاجعة المولّد للأحلام البيضاء.

تعيدنا كل هذه التحليلات إلى الأسباب التي كانت تدعو العرب لبعث أطفالهم مع المرضعات إلى الصحراء. فهي في ذهنية الأكثر تحضراً (أهل مكة، والمدينة)، النموذج الذي يجب أن تتربى عليه أجيال العرب، لناحية الفصاحة وبنية الجسد وأنماط العيش والقدرة على التحمل وغيرها. فالأجيال الجديدة وفق ذهنية القبيلة هم إما مقاتلون أو شعراء، وفي الحالتين أهل البدو هم صناع هذه الشخصيات.

Comments

عاجل