المحتوى الرئيسى

مخلوقات مطرودة من رحمة العرب

10/14 15:44

مخلوقات عديدة ظلمها العرب، وعاشت في تراثهم رمزاً للغباء والدونية والشؤم، ورغم أنها كبقية المخلوقات لم تختر هيئاتها ولا أصواتها وألوانها، إلا أنها تدفع ثمن ذلك غالياً. وتراوح ألوان العقاب بين سوء المعاملة والقسوة الشديدة، وصولاً إلى القتل بالرصاص والسم و"الشبشب" أحياناً، ما يجعلها تستحق بجدارة لقب مخلوقات مطرودة من رحمة العرب.

"شي حا" هي كلمة السر التي يفهمها الحمار. وتأتي عادةً مقرونة بلسعة عنيفة بعصا على ظهره لحثه على السير، وهو يسحب عربة عليها حمل ثقيل، في مشهد لا يحظى باهتمام غالبية المارة، الذين اعتادوا رؤية الحمار في هذا الوضع المهين.

أبو صابر وابن شنة وابن دلام وابو زياد، هي بعض أسماء الحمار في التراث العربي، الذي منحه درجة الحيوان الأكثر غباءً وبلادة، وبقي رمزاً لأنكر الأصوات، رغم أنه في الحقيقة مثال للصبر وقوة التحمل والعطاء، وربما للذكاء. فبإمكان الحمار أن يحفر في ذاكرته إحداثيات طريق قطعه مرة واحدة، لذلك يعتمد عليه الفلاح في الذهاب وحده من الحقل إلى المنزل.

كان للحمار دور كبير في القصص والحكايات التراثية، ونصيب وافر من الأمثال، إذ يذكر الجميع لا سيما الأطفال، حمار جحا الظريف والمضحك، أشهر حمار في التراث العربي، والذي من خلال نوادره العديدة ومواقفه الطريفة، عبّر جحا عن الكثير من جوانب الحكمة والفلسفة.

لكن الأمثال جاءت لتجسد النظرة المجتمعية للحمار كملك متوج على عرش الغباء والبلادة، مثل "التكرار بيعلم الحمار"، و"اربط الحمار مطرح ما صحبه عايز"، و"اللي ما يغار بيكون حمار"، و"الشاطرة تغزل برجل حمار"، و"شوفهم الحمير بأكلالزنجبيل". وهناك أقوال متداولة لوصف الأشخاص الكادين في عملهم، فلان "حمار شغل". ومن الحكم العربية أيضاً: "اجلد السرج لكي تحمل الحمار على التفكير".

وحظي الحمار في السنوات الماضية بنصيب في الأغنيات الشعبية التي ذاع صيتها كثيراً بين الجماهير. مثل أغنية "أنا بحب الحمار" للفنان الشعبي المصري شعبان عبد الرحيم الشهير بـ"شعبولا"، استعرض فيها محاسن الحمار وصفاته التي يسمو بها على بني البشر، يقول في مطلعها: "أنا بحب الحمار.. بجد ومش هزار.. عشان تعبان معانا.. بالليل وبالنهار".

لكن أغنية "بحبك يا حمار" للمطرب الشعبي المصري سعد الصغير كانت مثالاً دامغاً على أن الإنسان العربي، يمكنه أن يحب أبو صابر إن شاء، ويتعاطف معه، لكنه لا يقبل بأي حال أن يشبهه أحد به، خصوصاً وسط الجموع، إذ طلّق عريس سوري عروسه عام 2008 أثناء حفل الزفاف، بعد أن طلبت الرقص على هذه الأغنية، وبمجرد تشغيلها سحبته العروس ضاحكة من ربطة عنقه.

يتمتع الكلب بمكانة رفيعة في التراث العربي كرمز للوفاء والإخلاص كصديق ربما أوفى لأصحابه من البشر، ما يتجلى في ما كتبه الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، المتوفى عام 309 هجرياً، في كتابه "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب".

ويتناول الكتاب بالتفصيل ما ورد في الكلب من أقوال الشعراء والأحاديث النبوية وأقوال الحكماء، ووصايا الآباء للأبناء في الإحسان إلى الكلب، وأخبار الأدباء فيه ومنافعه وذكر بعض من يذم الكلاب.

مع ذلك، بقيت قضية نجاسة وطهارة الكلب من القضايا الخلافية بين الفقهاء المسلمين، بين من رأوا أنه طاهر الجسد واللعاب، وهو مذهب المالكية والظاهرية والإباضية، ومن قال إنه نجس تماماً، وهو مذهب الشيعة والشافعية، ومن قال إن شعره طاهر وريقه نجس، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.

خلاف آخر هو حول صحة الأحاديث النبوية التي تحض المسلمين على قتل الكلاب. فقد ورد أن النبي قال: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم". على اعتبار أن الأسود منها شيطان.

وبعيداً عن هذا الجدل، ورغم ما تقوم به الكلاب من أعمال حراسة تتفانى في آدائها، ووفائها غير المسبوق، لكنها بقيت في مجتمعنا العربي رمزاً للخسة والدناءة، فيقولون: "دا كلب ولا يسوى"، و"كلب وراح"، و"الميت كلب والجنازة حامية".

بيد أن الكلاب الأسوأ حظاً هي كلاب الشوارع أو الكلاب الضالة، إذ تلجأ الكثير من الدول العربية للتخلص من هذه المشكلة بإبادتها.

كان الغراب شاهداً في بدء الخليقة على أول حادث قتل بين البشر، حين قتل قابيل أخاه هابيل، بحسب روايات دينية مختلفة، لذلك ارتبط اسمه بالموت والشؤم لدى العرب، الذين لاحظوا اجتماع الغربان حول جثث القتلى بعد المعارك، فصارت في أدبياتهم وتراثهم مخلوقاً كريهاً يجلب الخراب أينما حل، وتنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور.

وكنية الغراب لدى العرب أبو حاتم وأبو جحادف، وأبو الجراح وأبو حذر وأبو زيدان، وأبو زاجر وأبو الشؤم وأبو غياث، وأبو القعقاع وأبو المرقال. وقال المقدسي في كتابه: "كشف الأسرار، في حكم الطيور والأزهار"، في صفة غراب البين: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب، وينعق بين الخلان والأحباب، إذا رأى شملاً مجتمعاً أنذر بشتاته، وإن شاهد ربعاً عامراً بشر بخرابه، ودروس عرصاته، يعرف النازل والساكن بخراب الدور والمساكن. ويحذر الآكل غصة المآكل، ويبشر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين".

وإمعاناً في ظلم الغراب، تقول الأسطورة العربية إنه عندما غمر الطوفان الأرض بقي النبي نوح في اللجة أياماً محاولاً الوصول إلى اليابسة دون جدوى، و"بعث غراباً يأتيه بالخبر، فوجد جيفة، فوقع عليْها واشتغل عن الرجوع، فدعا عليه نوح بالخَوف، فلذلك لا يألف البيوت" (عرائس المجالس: الثعلبي، 59). وقد اسود لونه بعد هذه الواقعة إذ كان ناصع البياض وقالت العرب في بعض أمثالها في البعد والاستحالة: "لا يكون كذا، حتَّى يرجِع غراب نوح" (كتاب الحيوان: الجاحظ).

أما عرجته فلها قصة غريبة في الوجدان الشعبي العربي، يرويها الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى"، إذ يقول إنه "حسد الغراب القطاة (نوع من اليمام البري) على مِشيتها، وأحبَّ تقليدها فلم يفلح، وأضاع مشيته الأولى فصار يحجل كما يحجل الأسير".

وخاف العرب كثيراً نعيق الغراب، وهناك من يعتقد أنه إذا صاح مرتين فهو نذير شر، وإذا صاح ثلاث مرات فهو خير، على قدر عدد حروف كلمتي خير وشر.

وهناك أمثال كثيرة مرتبطة بالغراب، تعكس نظرة العرب له مثل "يا فرحة ما تمت خدها الغراب وطار"، و"ياما جاب الغراب لأمه"، للسخرية ممن يرجع بأشياء لا قيمة لها. وقيل: "الغراب أعرف بالتمر"، لأنه لا يأخذ منه إلا أجوده. وضربوا به المثل في الاستيقاظ باكراً، فيقال: "أبكر من غراب" و"احذر من غراب"، ومن هنا جاءت كنيته أبو حذر. وقيل لمن اغتنى بعد فقر، "بعد ما كان يحجل زي الغراب، لبس جزمة وشراب".

ولم يتوقف الحظ العاثر لهذا الطائر المنكود لدى العرب عند هذا الحد، بل جاء ضمن خمسة مخلوقات نُسب للنبي محمد أمره بقتلها، أو كما جاء في الحديث: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة". ويشترط هنا أن يكون الغراب أبقع أي فيه سواد وبياض.

تعرف بعينيها الواسعتين الباردتين، وصوتها الذي يبعث بقشعريرة باردة في الجسد على أنها أشهر نذير شؤم على الإطلاق لدى العرب، الذين كانوا يزعمون قبل الإسلام، أَنها تخرج من هامة القتيل وتقول: "اسقُوني اسقُوني، حتَّى يُؤخذَ بثأْره". لذلك تسمى البومة بالهامة، وهي طائر ليلي جارح يعيش في الخرائب والديار المهجورة ويتعذى على الحيوانات الليلية الصغيرة كالفئران. وبعكس ثقافات أخرى اعتبر العرب أن البوم يجلب الشؤم، وتنسب له كل المصائب كموت الأحبة وخراب الديار.

فصوت البوم لديهم دليل على الدمار والهجران، ويسمونه الندب، والندب هو البكاء الحزين الذي له أول وليس له آخر. وفي المعتقدات الشعبية القديمة إذا شوهدت البومة فوق منزل مسكون على غير عادتها، يتعين على سكان البيت مطاردتها قبل أن تحل لعنتها عليهم وتخرب البيت فوق رؤوسهم.

Comments

عاجل